الإثنين 29 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

ذلك الغياب

الجمعة 12/أبريل/2024 - 03:51 م

* في سنة 2022 كان فيه حادثة رهيبة هي مثار حديث واهتمام الناس في منطقة "بيكهام" في جنوب بريطانيا وقتها.. بس قبل ما نتكلم عن الحادثة خلينا نرجع بالأحداث لـ 3 سنين قبلها وتحديدًا في 2019.. هنتكلم عن السيدة "شيلا سيليوان" اللي كان عندها وقتها 61 سنة.. سيدة لطيفة عندها ابن وبنت كل واحد منهم متجوز ومخلف وعايشين في مدينتين مختلفين عن المدينة اللي فيها أمهم بس بيزوروا أمهم من وقت للتاني.. لأ لحظة.. تصحيح.. هما كانوا بيزوروا أمهم بناءًا على طلبها هي من وقت للتاني.. كده الجملة بقت أصح وأدق.. الست كانت بتشحت زيارة أولادها ليها ما هي ظروف الحياة اللي بتسحبنا عن حبايبنا فيه زيها بالظبط في بريطانيا وفي كل العالم برضه.

الفكرة إن علاقة "شيلا" بأولادها وأحفادها كانت لطيفة ومفيهاش أى خلافات من أى نوع.. الست ربت وعلمت وكبرّت الولد والبنت كأفضل ما يكون بعد وفاة أبوهم وكانت نعم الأب والأم سوا.. "شيلا" كمان كان عندها 2 صديقات قريبين منها وعايشين في نفس المدينة بتاعتها واحدة منهم في نفس سنها، والتانية أكبر شوية، ورغم كده ومع ظروف الـ 3 المرضية بس كانوا حريصين يتقابلوا من وقت للتاني سواء في تمشية في الجنينة أو خروجة في كافيه أو حتى في بيت واحدة منهم يدردشوا شوية.

 فيه ملحوظة كمان عشان الصورة تبقى واضحة أكتر.. "شيلا" كانت هي اللي بتجمع الكل.. بمعنى؟.. يعني لو مفيش إلحاح منها لولادها إنهم وحشوها وعايزة تشوفهم هما والأحفاد يبقى قابلني بقى لو الرغبة دي جت منهم لنفسهم!.. في نفس الوقت برضه كانت هي الدينامو اللي بيفرك عشان تجمع الاتنين أصدقاءها عشان يتقابلوا.

طب ولو "شيلا" كسلت شوية؟.. زى الفل هتلاقي الباقيين أنتخوا هما كمان.. ابنها هيقول أنا أولى بالكام ساعة سواقة وسفر عشان نروح نزور أمي، وبنتها هتقول نفس الكلام، وأصدقاءها هيقولوا الكنبة أولى بينا.. رغم كده بس "شيلا" كانت بتلاقي متعتها في تجميعهم بدون أى كسوف.. هي شايفة المتعة في الهدف الأهم وهو إننا نبقى سوا وإني أشوف حبايبي ومش مهم مين اللي يقول يالا بينا.. بس الفكرة إن "شيلا" ومع مرور السنين وبعد 20 سنة متواصلة من أداء الدور المثالي ده تعبت.. تعبت زيها زى أى شخص بيكون محتاج يفصل شوية وياخد قد ما بيدي.. التعب كان جسدي ونفسي سوا.

غابت أسبوع، والأسبوع بقى أسبوعين.. واحدة من صديقاتها اتصلت بيها تتطمن عليها فقالت لها "شيلا" إنها تعبانة شوية ولما صديقتها عرضت إنها تيجي تزورها "شيلا" قالت لها بلاش عشان ماتتعديش، وطمنتها إنها هتبقى كويسة، والحقيقة إن ده كان رد متوقع من سيدة محترمة عمرها ما كانت بتحب تبقى عبء على غيرها!.. الأسبوعين بقوا تلاتة وشهر!.. الصديقتين كانوا بيتصلوا بـ "شيلا" مكالمات متواصلة بدأت تقل شوية بشوية لكن الغريب إن لا الابن ولا البنت اتصلوا بأمهم خالص وده زود الحالة النفسية السيئة لـ "شيلا"!.. معقولة شهر كامل؟!.. لأ هو الأغرب مش كده.. الأغرب والأقسى والأكثر ألمًا إن "شيلا" وقعت ماتت في أغسطس 2019 في صالة بيتها!.. مش بس كده.. دي ماتت بدون ما حد يحس لا يعرف إلا بعد مرور سنتين ونص كاملين!.

طب فواتير الكهرباء!.. طب فواتير الغاز؟.. طب التليفون؟.. طب الإيجار؟.. "شيلا" كانت رابطة فاتورة الكهرباء وقيمة الإيجار بالفيزا بتاعتها وكان بيتخصم كل شهر قيمتهم بشكل تلقائي ويمكن ده كان قرار رباني عشان نعرف القصة من زوايتها المؤلمة دي.. ليه؟.. لإن النور بتاع البيت كان دايمًا منور بالليل وبالنهار بس الجيران مش بيشوفوا النور بالنهار لإن الشمس كده كده طالعة لكن رؤيتهم للنور اللي في البيت بالليل كان بيأكدلهم إن الست عايشة عادي ومفيش شيء غريب.. فلوس الإيجار نفس الكلام.. فاتورة الغاز بقى هي اللي لما بدأت تتراكم.

 قرر صاحب الشقة إنه يقدم طلب لشركة الغاز إنهم يفصلوه عنها وفصلوه فعلًا.. طب يا عم روح طل طلة على الشقة؟.. لأ المسافة بعيدة!.. مع مرور الوقت بدأ الجيران يشموا رائحة كريهة جدًا في محيط البيت بس محدش جه في باله إنها تكون بسبب وفاة الست.. لاحظوا كمان وجود حشرات غريبة بتخرج وتدخل للجنينة بس برضه محدش ربط ده بأى حاجة!.. الغريب إن الجيران كانوا بيلاقوا تبريرات على طول.. تلاقي "شيلا" عزلت وسابت الشقة.. تلاقيها بقت مهملة ومش نضيفة زى عادتها.. مليون كلمة "تلاقيها" بدون ما حد يفكر إن الست ممكن تكون في خطر!.. سيبك من الجيران.. صديقاتها وأولادها!.. قعدوا سنتين ونص مش بيسألوا ولا ملاحظين حاجة غريبة؟.

 آه هو ده اللي حصل بالظبط.. اللي كشفته التحقيقات الصحفية بعد كده كان إن زوجة ابنها تعبت شوية فالابن اتلخم مع مراته ولما عدوا من الأزمة زوجته سألته هل حماتي سألت عليا فقال لها لأ فالزوجة خلّت الابن يشيل من أمه على الفاضي اللي هو إزاى حماتي اللي كانت متعودة تتصل وتسأل بينا في العموم ماتظهرش وأنا تعبانة!.

طب مش يمكن يا هانم تكون ماتت مثلًا وهو ده اللي منعها؟.. ولا أنتم اعتبرتم سؤالها عنكم حق دائم بدون أى حقوق مفروضة عليكم بالمثل؟.. شيء في قمة القرف وإنعدام الذوق والأخلاق.. أما بالنسبة لبنتها فكانت مشغولة بإعداد الدكتوراة بتاعتها وزى ما تكون لقت في غياب أمها سبب للتركيز في دراستها.. عظيم بس ده يخليكي تنسيها شهر أو اتنين لكن سنتين ونص!.. أهو بقى ده اللي حصل والأيام جرت ورا بعض وماحستش، وبعدين ما أنا كنت بتصل بيها ومش بترد فقولت أسيبها براحتها!.

والصديقتين دول كمان كان موالهم موال لإن تفكيرهم المريض صور لهم إن "شيلا" واخدة جنب منهم ومش حابة تخرج معاهم ولا تقابلهم وفهموا إنها قطعت معاهم فإحنا كمان هنقطع معاها!.. طب حد فيكم جرب يزورها أو يشوفها راحت فين؟.. لأ.. كانوا بيطلعوا مبررات منهم لنفسهم.. تلاقيها راحت لحد من عيالها.. تلاقيها سافرت ما هي معاها فلوس قد كده.. تلاقيها زهقت من الخروج معانا ومن معرفتنا.. أسباب هبلة مايصدقهاش حد بس للأسف أقنعتهم.. الشرطة لما تكررت بلاغات الجيران بخصوص الرائحة ولما اقتحموا الشقة ماكنش في بالهم إنهم هيلاقوا "شيلا" عبارة عن هيكل عظمي مرمي في نص الصالة ولابسة بيجامة تقيلة!.. متخيل المنظر؟.. الجثة تحللت بالكامل.. الشرطة ماكانتش مصدقة إن ده حصل لإنه من ورا العقل ودوروا على أى أدلة تثبت إن الوفاة جنائية بس مالقوش لإن الوفاة طبيعية 100% بدون ذرة شك.. اللي كان هيجنن الشرطة إن إزاى محدش سأل عنها طول المدة دي.. حتى محكمة "ساوثوارك كورونرز" لما طلعت تقريرها النهائي عن الأمر قالت إن "شيلا" ماتت مرتين.. مرة بسبب عدم سؤال حد عنها، والمرة التانية الوفاة البشرية العادية.. انتشر الموضوع وكان زى لطشة القلم اللي نزل على إنسانية المجتمع هناك بقوة عشان يفوق اللي غابت رحمتهم وإنسانيتهم.

رغم قسوة الغياب إلا إنه بيخليك تختبر قيمتك عن غيرك.. فيه اللي غيابك هيريحه، وفيه اللي مش هياخد باله من غيابك أساسًا، وفيه اللي حياته هتقف بغيابك فهيدور عليك، وفيه اللي هيطلع مليون سبب يرضي بيهم ضميره ويبرر بيهم غيابك مع إنه بسهولة يقدر يطمن عليك بمكالمة أو رسالة بس هياخد الطريق الأطول عشان يبقى عمل مجهود وهمي يواجهك بيه لو عاتبته.. حاجة كده زى المكالمة اللي بتعملها وأنت بتقول لنفسك يارب اللي بتصل بيه مايردش.. طب إيه اللي جابرك أساسًا!.. ماتسمحش بغياب اللي بتحبهم عنك خصوصًا لو كانوا أصحاب فضل وحضور دائم في حياتك.. غِيب غِيب وإسأل، ولو هما اللي غابوا شوية عنك برضه إسأل.

الغياب مع طوله بيقلل اللهفة وبيخلّي حتة في القلب تنطفي.. محدش مكانه محجوز غير بالقرب، والأفعال.. الغياب بيقّسي، وبيبني حواجز.

تابع مواقعنا