الإثنين 03 يونيو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

شباب بعد الخمسين

السبت 13/مايو/2023 - 12:33 م

أيقظتني زوجتي وهي تقول: “كل سنة وأنت طيب.. اليوم عيد ميلادك الخمسين”، لم أنتبه؛ فليست عادتي الاحتفال بمثل تلك المناسبات، وعندما يفاجأني أصدقائي المقربون؛ أشعر بالخجل، لا من السن، ولكن لعدم التعود على الاحتفالات أو حضورها من الأساس.

اليوم مر خمسون عاما من عمرى، جلست وعقلي يذهب الى البدايات أتذكر القرية والكتاب والمدرسة وأصدقاء الطفولة، وشجرة التوت وأحلام كبيرة تعيش داخل طفل يعيش في آخر العالم.

أتذكر أصدقاء رحلوا إلى بارئهم ومواقف كثيرة جمعتنا، وأساتذة وجيران في البيت والحقل، كل شيء يجري أمام عيني بسرعة عمر بأكمله يمر، وأنا ساكن في مكاني، تعب وشقاء فرح وسرور الأيام تمر وما زال حلمي في جعبتي يتنقل معي كأنه ظلي، حتى كانت الثانوية العامة وما مر فيها من أحداث أليمة مرض وقهر، سكنت فيها روحي منتظر الموت ولكني لم أمت، تعافيت وأكملت المسير ودخلت كلية الآداب.

بالجامعة تصورت كل شيء متاحا، كنت منطلقا أكتب وأحضر ندوات، أشاغب وأشاكس، أتمرد وأنتفض، وكأنني أعيد إحياء الحركة الطلابية في السبعينيات، لكنها انتهت إلى مجرد أطلال.

أدمنت قراءة صفحة الوفيات بالأهرام، فتعذر الممكن وأصبح المستحيل حقيقة، استسلمت لقدري وسكن حلمى لم يعد يطاردني، أدمنت الصمت حتى السكون، وظن البعض أنني لا أتكلم.

الفترة بعد الجامعة كانت من أصعب الفترات في حياتي، اختل تفكيري، البلد يحكمها الوساطة والمحسوبية، عليك أن تحلم كيفما تشاء ولكن عندما تستيقظ من حلمك، عليك أن تلعن الظروف والأوضاع ولا مناص عن الهجرة إلى بلد غريب تبحث فيه عما ضاع فى بلدك.

كان السفر هو آخر آمالي، لكن الأهل وقفوا عقبة أمام هذا الهروب، فهناك مسئوليات تنتظرك أفبعد أن تعلمت تسألنا الرحيل؟

أمام المسئوليات تنسى كل شيء حتى نفسك، تنغمس في العمل -أي عمل- فكل الأعمال شرف لصاحبها، لكن لو عددنا تلك الأعمال ستقول أنني أتجمل، فكم كانت شاقة وكم كانت الرحلة مرهقة.

الجميع تعلموا وتزوجوا وبدأوا حياتهم الجديدة، وأنا عليّ الآن أن أبدأ حياتي، لكن العمر سرق في زحمة الحياة ومتطلباتها، عليك أن تتمرد مرة أخرى، فأثناء خدمتي في الجيش أطلقوا عليّ لقب سعد زغلول لكثرة مشاغبتي والدفاع عن حقي كإنسان في معاملة حسنة، لم أخف أبدا الحبس ولكنني تعودت عليه.

 

أتذكر في إحدى الشركات الكبرى، عندما تحديت صاحب العمل وأرسلت إليه خطابا بطلبات موظفي الشركة، وتعطل العمل داخل المنشأة فطلب الشرطة واتهمني بالتظاهر والتزوير وتعطيل دولاب العمل، وذهبت إلى القسم وطُردت من عملي، ولولا ستر الله وتدخل بعض الكبار لكنت في السجن، فقد تم التنازل عن المحضر بتقديم الاستقالة، ولكن من دافعت عنهم خذلوني وتركوني أواجه مصيري وحدي، بعدها تغيرت قناعاتي نوعا ما، وبدأت رحلتي مع الصمت.

 

ظلت سلوتي الوحيدة هي القراءة وتكوين عالم في خيالي فقط، عشت في كل العصور، وكنت بطل كل العصور، أنا حاربت في حطين، وانتصرت على الهكسوس، قاتلت أبا لهب، شاهدت أكواخ سنغافورة قبل أن تتحول إلى ناطحات سحاب، هربت من جحيم الخمير الحمر في كامبوديا، سافرت مع ابن بطوطة، وعدت مع أنيس منصور، هاجمت عبد الناصر وشاهدت مقتل السادات، وصافحت حسني مبارك يوم إعدام صدام حسين، انقلبت عليه في 25 يناير، هاجمت الإخوان، وكنت رجل عمرو موسى، ذهبت إلى الهندوس والبهائيين والجينيين والسيخ والزراديتش، رأيت العالم كما لم يره أحد، عشت في عصر ما قبل التاريخ وما بعد الميلاد، تصفحت كل شيء يقع أمامي لأذهب معه حيث يأخذني، لم أحاول أن أخرج من عزلتي الاختيارية، وصارت حياتي بين عملي وخيمتي كما كانوا يطلقون علي أنني عندما أدخل الخيمة فلا أحد يقترب مني، حققت نجاحات كبيرة في عملي، لكنها لا تساوي تحقيق حلمي.

 

عدت مع ثورة يناير.. تجددت كل الآمال.. وتفجرت كل الأحلام لكنها سرعان ما كانت كاذبة.. الكل يتملق.. يكذبون ويقولون ما لا يفعلون.. حاولت أن أنطق كما فعل حسين رياض في رد قلبي.. ولكن لساني لم يطاوعني.. ستكون كل الحقيقة مرة.. وستخسر كل من حولك.. وستجد نفسك وحيدا.. فالأولى أن تعيش وحيدا في عالمك المصطنع.

 

لكن منذ عدة أشهر، حدث شيء لم أستطع حتى الآن تجاوزه، عندما قيل لي لم أعد أدرك معه طعما للحياة، Too much تعبير بالإنجليزية جملة قاسية في سياقها لم أستطع تجاوزها حتى تلك اللحظة، لكنها جعلت لساني ينطق رويدا رويدا وعدت إلى جعبتى لأستخرج منها أحلامي المؤجلة.

بعد الخمسين تبدأ رحلة جديدة أحس أنني عدت شابا أهتف في ميدان التحرير من جديد، أنتفض على كل وضع تغاضيت عنه، هدمت خيمتي وقتلت صمتي وأطلقت العنان لقدمي تنطلقان، وعقلي ينظر إلى المستقبل البعيد، فقد عادت لي الرغبة في الحياة، أريد أن أرى ما حلمت به، ما هتفت أعماقي به، وما كتبته وقرأته أنا وحدي، لعله يوما يرى النور.

ندمت يوم أن مزقت كل أوراقي القديمة، حرقت كل الكلمات والجمل حتى تفحمت، تأكدت أنني لن أراها ولن يراها أحد، ولكنني اليوم أقف صامتا أرى  وأسمع كل شيء.

بعد الخمسين جاءت حياة جديدة، أعلم أنها قصيرة، فالأعمار بيد الله، ولكن فيها قلب ينبض بالحياة.. لا تتنازل عن حلمك.. لا تستسلم لليأس.. فكما قال صديقي إسلام: “اليأس خيانة”.

تابع مواقعنا