بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
من أكتر الجمل اللي انتشرت خلال الفترة الأخيرة وخصوصا مع بداية الحرب الغاشمة على أهلنا في غزة جملة “ما تقول رأيك كده خلينا نشتمك”!.. الجملة اللي تبان دمها خفيف هي في الحقيقة بتعبر عن واقع سخيف بقينا نعيشه في آخر كام سنة وبالذات آخر شهر ونص!.. مهما كان رأيك، وسواء كنت مع أو ضد أو محايد فيه اللي هيجادلك وهيشتمك.. هيجادلك مش عشان يقنعك.. لأ.. عشان يشتمك.. الإمام “الشافعي” كان من أكتر الناس المشهود ليهم بالصبر وطول البال وحُسن رد الفعل وسرعة البديهة.. المجلس العلمي الديني اللي كان بيعمله الإمام كان بيبقى فرصة عظيمة لكل اللي عايز يتعلم من أمور الدين والدنيا على إيد الراجل العالم المثقف النبيل ده.. في يوم جه للمجلس شاب كان معروف بجداله وإنه لما بيمسك موضوع مش بيسيبه إلا وهو مطلع عين اللي بيناقشه.. لما الناس في المجلس شافوه داخل عليهم الكل توقع إنهم هيشوفوا معركة طويلة بين الإمام “الشافعي” وبين الشاب المجادل وبصراحة الأمر كان جذاب لمعظم الحضور عشان يشوفوا الموضوع هينتهي إزاي!.. الشاب سأل الإمام: (كيف يكون الشيطان مخلوقا من نار ويعذبه الله بالنار؟).. رغم بساطة السؤال إلا إنه ظهر إن فيه وجاهة ما!.. الكل بص للإمام اللي فضل ساكت شوية بيفكر واتحرك من مكانه لمكان في طرف المجلس ووطى جاب حاجة من الأرض ورجع قعد في مكانه تاني!.. بمجرد ما استقر رمى اللي في إيده على وش وملابس الشاب!.. اللي رماه عليه ماكنش أكتر من كومة من الطين اللي طبعًا بهدلوا عين الشاب ووسخوا هدومه وصابوه بحالة من الغضب الشديد فسأله الإمام “الشافعي”: (لِمَ يبدو عليك الغضب والألم!، هل أوجعتك قطعة الطين؟).. الشاب رد بغضب: (نعم!).. الإمام قال بثقة: (كيف تكون مخلوقا من طين ويوجعك ويؤلمك الطين!).. رغم وجاهة السؤال زي ما قولنا لكن منطقية الإجابة خلّت الشاب وكل الموجودين يفهموا حكمة الإجابة وصحتها.. بس لحظة!.. مواجهة المجادلين بتكون ذات قيمة لما يكون الجدال نفسه بشياكة والمجادل عنده استعداد يتعلم ويفهم مش مبدأه إنه يركب دماغه على طول الخط بدون ما يكون عنده رغبة في تصحيح مفاهيمه.. يعني باختصار الكلام ده كان أيام الإمام “الشافعي” مش دلوقتي خالص.
حتى بالحكم من خلال المنظور الديني ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة "النحل" الآية رقم 125: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.. ربنا ربط المجادلة بالطريقة الأسهل.. الأبسط.. الأهدى.. الأفضل.. اللي مايكونش فيها عبء لا عليك ولا على اللي عايز تقنعه وتتناقش معاه.. طيب ولو كان النقاش والجدال فيهم حرقة دم، وجهد، وأعصاب؟.. أكيد الحل إنك تبعد عنهم بدون خوض مشوار مفيش من وراه رجا.. جزء مش قليل من وقتي وعمري الحقيقة ضاع على الفاضي مع شاب قريبي كان عنده من 10 سنين 20 سنة!.. بصرف النظر إنه قريبي لكنه شاب طيب وكان والده متوفى وعنده أخته وأمه عايشين معاه في نفس الشقة.. أخته كان جايلها عريس يتقدم لها والشاب قريبي قرر يقابل العريس وأبوه على أساس إنه هو راجل البيت وكده.. قعدت وكنت متابع وماتكلمتش.. لقيت قريبى -(اللي لسه نظريا مطلعش من البيضة عشان يكون مسؤول عن قرار جواز أخته)- بيقول شروط شِبه تعجيزية لـ العريس وأبوه.. لو قاصد يطفشهم مش هيعمل كده!.. الناس مشيت وقالوا إنهم هيفكروا ويردوا.. سألته: (إيه اللي إنت عملته ده!، إنت بتستعبط؟).. رد عن اقتناع: (لما الموضوع يتعلق بأختك لازم تخليهم يدفعوا حبابي عينيهم، دي أختى!، لازم أعرفهم قيمتها كويس!).. فضلت أنا وهو في جدال لمدة شهور بحاول أقنعه إن الولد فعلًا كويس وكلنا اتأكدنا من ده لما سألنا بنفسنا يبقى الفيصل هو رأي أخته نفسها!.. يا ابني هتندم!.. الولد هيضيع من إيديكم!.. رفض وصمم على وجهة نظره.. أنا مش هتساهل ولا هتنازل عن تنتوفة من اللي قلت عليها.. كانت النتيجة الطبيعية بعد الكلام الكتير والجدل اللي مالوش لزمة إن مايحصلش نصيب وكل واحد راح لحاله.. بعدها بـ 5 سنين راح قريبي هو بنفسه عشان يخطب واحدة زميلته بيحبها ويشاء القدر إني أكون معاه برضه بطلب شخصي من والدته عشان مايبقاش رايح لوحده.. حصل معاه أكتر بكتير من اللي هو عمله مع عريس أخته!.. ومن مين؟.. من أخوها برضه!.. تقريبا شِبه طردونا!.. وإحنا ماشيين في الشارع قال لي: (أنا مش فاهم ليه التعجيز ده!.. ليه بيقفلوها في وشنا وإحنا مش عايزين غير الحلال!، أهالي عايزة الحرق! نسرق يعني!).. وقفت وبصيت له ورديت عليه بسرعة: (وحياة خالتك!).
ما تقدرش تفهم إيه اللي ممكن يخلّي بني آدم عاقل يتجادل جدال عقيم مع شخص تاني أثبت له بدل المرة مليون إنه مش ناوي يفهم حتى لو فضلوا سنين يتجادلوا!.. أنت فعلا منتظر إيه من وراه!.. خلّي الدنيا هي اللي تعلمه، وتفهمه، وتنوره.. الإنسان طاقة، ومنسوب الطاقة دي بيطلع وبينزل حسب مواضع هدرها وأهميتها.. الوقت هو أغلى شيء هتخسره في اللحظة اللي هتتعامل معاه فيها إنه مالوش قيمة لدرجة إنه يضيع عادي على الفاضي مع ناس فاضية!.. الأديب العالمي “جورج برنارد شو” قال: (المجادلة مع شخص غبي تشبه قتل بعوضة على خدك، قد تقتلها أو لا تقتلها، لكن في كلتا الحالتين سينتهي بك الأمر بأن تصفع نفسك).