الأمل في حياة النّبي
تحدثنا عن الأمل، وقلنا عنه: إنه خلق عظيم، بل عبادة جليلة تخلق بها أنبياء الله ورسله،وتعبدوا بها، وقد حفل القراءن الكريم بالكثير من النماذج الرائعة لهولاء المصطفين الأخيار الذين توكلوا على الله، وألجأوا ظهورهم لله، وتمسكوا بالأمل فيه، وما أصابهم يأس من رحمته وكرمه، فالأمل ثمرة من ثمرات الإيمان الحقيقى بالله، والأنبياء والرسل هم أعظم الناس إيمانا، وأمنهم خلقا، فهم صفوة لله من خلقه.
وسيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم –هو سيد الأنبياء وإمام المرسلين، وقد جاءت رسالته ودعوته عامة لكل الناس كما قال –تعالى –فى كتابه الكريم:(قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا...) الحج/158، وقال أيضا: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا..) سبأ/28، وكذلك كانت دعوته ورسالته خاتمه الدعوات والرسالات، فليس بعده نبى،قال –تعالى-(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبين) الأحزاب/40، ومع تأخره زمنا فى الواقع؛ إلا أنه هو المقدم عليهم مكانة وفضلا.
-ومن لوازم عمومية الرسالة المحمدية،وختمها لكل الرسالات السماوية، أن يعانى رسول الله الكثير من المحن والأذى،والتكذيب والاضطهاد،لا أقول:كما أصيب وعانى إخوانه من الأنبياء من قبله، بل أشد وأكثر، وكتب السيرة النبوية حافلة بتلك المواقف التى نال فيها النبى –صلى الله عليه وسلم-الأذى والمشقة فى سبيل تبليغ دعوته ورسالته، حتى من أقرب الناس اليه.
-وكما تخلق الأنبياء السابقون بخلق (الأمل فى الله)-عز وجل-فجعلوا الله ملاذهم وملجأهم فى كل نازلة وكرب، يفرج عنه همومهم، ويدفع عنهم مصائبهم وأحزانهم، فيفتحون آفاق البشرى بالثقة في وعد الله –سبحانه- الذى لايخيب أبدا من أمّله ورجاه،كذلك كان الرسول –صلى الله عليه وسلم فى أحلك وأشد المواقف التى تعرض لها فى حياته الحافلة،لم يفقد الأمل فى ربه،أو يعتريه يأس أو قنوط،بل -على العكس من ذلك-كان شمسا يشرق منها نور الأمل فى نفوس الصحابة –رضوان الله عليهم- من حوله، فتأتي كلماته المفعمة بالأمل المملوءة بالتفاؤل راحة واطمئنانا وسكينة لهؤلاء الذين عصفت بهم المحن، وزلزلتهم الصعاب، وأوشك أن يتملكهم اليأس.
-ومن هذه المواقف العظيمة التي ضرب لنا بها رسول الله المثل والقدوة الحسنة، والأسوة الطيبة،التى تقول لكل من ضاقت به الحياة:(لاتفقد الأمل ولا تيأس، وانظر إلى حال رسول الله)
1-فى عهد الدعوة المكى،وعندما أشتد إيذاء الكفار للصحابة المستضعفين كسيدنا (خباب بن الأرث، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر...) وغيرهم- رضي الله عنهم أجمعين- فيأتون شاكين لرسول الله، يطلبون منه أن يدعو الله أن يرفع عنهم ماهم فيه من بلاء وكرب، ويستنزل لهم النصر على طغاة الكفر فى مكة المكرمة، وأن يمكن لهذا الدين، فيصبرهم رسول الله ويواسيهم ويفيض عليهم مما عنده من الأمل فى الله والثقة فى نصره -عز وجل-وتثبت قلوبهم كلماته التى تمثل بلسما شافيا لكل كرب وعناء.
يقول سيدنا "خباب بن الأرث"-رضى الله عنه –أتيت النبي –صلى الله عليه وسلم-وهو متوسد برده، وهو فى ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: (ألا تدعو الله؟ ألاتستنصر لنا؟ فقعد وهو محمر وجه، وقال: (لقد كان الرجل ممن قبلكم-يحفر له فى الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق اثنين وما يصده ذلك عن دينه...) ثم يسوق هذه البشارة بلهجة الواثق بالله، العامر قلبه بالأمل فى مولاه، فيقول: (..والله ليتمنّ الله هذا الأمر-أى: يظهر الإسلام وينصره- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وهنا يعلمنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ألا ينقطع رجاؤنا وأملنا، وألا نصاب باليأس، فإن لله في ذلك حكمة.
2-وعندما خرج إلى "الطائف" يدعو أهلها للإسلام، فكذبوه وأغروا به سفهاءهم يقذفونه بالحجارة، حتى سال الدم منه، ونزل عليه ملك الجبال يريد أن يهلكهم، فقال له النبي الكريم متمسكا بالأمل فى هدايتهم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله –عز وجل-وحده، ولا يشرك به شيئا).
3- وفي غار ثور عندما اختبأ النبى الكريم وصاحبه "أبو بكر"، ووقف المشركون أمام فتحة الغار، ولكنّ الله غالب على أمره،يقول أبوبكر –رضى الله عنه- (..يا رسول الله لو أنّ أحدهم طأطأ بصره رآنا،فقال له رسول الله:"اسكت يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ومن كان الله معه فالأمل فيه معقود، والثقة فى نصره لا تنقطع، فأعمى الله أبصار الكفار عن النبى وصاحبه، وكانت كلمة الله هي العليا.
-وفى رحلة الهجرة، يطارد "سرافة بن مالك"رسول الله-صلى الله-عليه وسلم- طمعا فى الجائزة التي رصدها كفار مكة لمن يأتيهم بخبر رسول الله، ولما وصل إلى رسول الله وصاحبه، واستوقفهما، في مواقف من أشد المواقف حرجا فى حياة رسولنا الكريم، ودعوته، ولكن الله حفظهما من كيده، بل بشره رسول الله بأنه سيلبس "سوارى كسرى" ملك الفرس، إشارة إلى أن الأمل في الله ونصره موجود حتى فى هذه اللحظة الحرجة والمواقف الصعب، وبالفعل بعد فتح بلاد فارس، وحيازة غنائمها أرسل إليه سيدنا عمر، وألبسه سوارى كسرى، تحقيقا لبشارة رسول الله له.
-ولما زاغت الأبصار،وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل الؤمنون زلزالا شديدا فى غزوة الأحزاب التى تجمعت فيها قبائل العرب لحرب رسول الله،وذلك سنة 5هجريا، وقام النبي والمسلمون بحفر الخندق حول الجزء المفتوح من المدينة،اعترضت طريقهم فى الحفر صخرة، لا تؤثر فيها المعاول، فلجأوا لرسول الله، فقام لها بحول الله وقوته، فأخذ المعول وقال: بسم الله وضربها، فانكسر ثلثها فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام،والله إنى لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة،ثم ضرب الثانية فنكسر ثلثها فقال:الله أكبر أعطيت مفاتيح "فارس" والله إنى لأنظر إلى قصر "المدائن" أبيض،ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله، فتكسرت بقية الصخرة،فقال:الله أكبر،أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكانى هذا الساعة".
فانظر وتأمل كيف تمسك رسول الله بالأمل فى نصر مولاه، وبشّر بأن الإسلام سيبلغ هذه البلاد، لم يفقد الأمل رغم شدة الموقف وهول المحنة، وقسوة الظروف التى تكالب عليه فيها الأعداء.
-فأبشر يا صاحب الأمل، فمن طيات المحنة ستأتى المنحة، ومن قلب الظلمة سيشرق النور، والله –عز وجل-سيجعل بعد العسر يسرا، وبعد الضيق سعة، وسيجعل بعد الهم والكرب فرجا، ولن يغلب عسر يسرين، كما ورد عن رسول الله –صلى الله-عليه وسلم-
“ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم”.