وصال العش تكتب: الصّورة بين تمثّلات الحلم والإدراك الفنّي في أعمال أحمد جمال عيد
لا تحضر الصّورة إلاّ إذا قصدها المتقبّل بالقراءة والتّأويل، لذلك فإنّ اعتمادنا على الصّورة الفنيّة بما هي إدراك فنّي تشكيلي وتمثّلات لبعض صور الحلم والخيال والذكريات، تُحيي الصّورة استطيقيًّا وتُجلي حضورها الظّاهر. فالظّاهر في الصّورة الفنيّة تشكيلات وخطوط وأشكال وألوان حالمة وفنطاسيات خياليّة مبدعة من خلال ابداع مشاهد فنيّة وترجمة الفنّان لذاته التي تمتدّ حرّة فيُبْسَطُ المشهد الفنّي من خلاله: أوّلا، بواسطة ترجمة الصّورة التي تتواصل فيها مع أجسادنا وإدراكاتنا ومشاعرنا. وتظهر ثانيا، بوصفها شكلا من أشكال الحلم المعيش لما لها من قدرة على إحضار الغائب الذي تَمثّله الفنّان في ذاكرته. فكيف يمكن قراءة صور فنيّة حالمة؟ وهل للحلم علاقة مباشرة بهذا الواقع الحاضر؟ هل يمكن تأويل الصّورة عبر توسّط الجسد الحاضر أم عبر توسّط الحلم الغائب؟
يُمثّل حضور الصّورة نوعًا من تحقيق الوحدة الأنطولوجيّة والحميميّة الاستطيقيّة مع الذّات فتُعبّر عن معناه وتتكلّم بلسانه.. وقد عبّر ميكال دوفران عن هذا الاتّحاد الحميميّ حين يستغرق المتلقّي في الأثر الموسيقي وحين يلتحم القارئ باللّون ويلتحم بصورة فنيّة أو أثر مَّا. ينفتح القارئ على العديد من الصّور ويكون حاضرًا فيها بجسده وروحه وشعوره، ليُترجم تمثّلات حلم الفنّان ورؤاه وإدراكاته... فلحظة الشّعور بالصّورة الفنيّة تدفع بالقارئ إلى مقولات قد تتجاوز فعل الإدراك والحضور اللّذان تتمثّلهما الذّات حسيًّا عبر المعيش الحاضر لكنّ تمثّلات الحلم لها لغتها الباطنيّة وتعيّنها الخيالي الذّاتي فيصبح النّظر إلى الموضوع الفنّي المعروض شبيهًا بالنّظر إلى موضوع يحضر واقعيًّا.
إنّنا نستعيد ضمن معيش الحلم طرح المتخيّل الفنّي، الذي يقوم الفنّان بإعادة استحضاره عبر مشاهد لا تحضر إلاّ بفعل تمثّلات فنطاسيّة فتتجلّى صور محايثة للواقع. بهذا الاعتبار يمكن أن تمرّ عمليّة التمثّل التّشكيلي عبر قراءة فينومينولوجيّة وعبر صور مختلفة تكون مدركة عبر الوعي، لكنّها تعمل سلفًا في كيفيّة تشكّل الحلم الفنطاسي المبدع الّذي يأتمر بالوعي المتخيّل ضمن التّجربة الإستطيقيّة للصّورة الفنيّة؛ لأنّ عمليّة استحضار الحلم بكليّته تكوِّن بالضّرورة جزءا من كلّ. وهي عملية يستحضر من خلالها الفنّان ما يُرتسم فنيًّا ولأنّ فعل الاستحضار هو ما يقوّي الفعل الإبداعي في الصّورة وهو ما يُصيّر المعنى التأويلي لتجربة فنيّة استطيقيّة وصفيّة تحمل كينونة لصور من الذّكرى.
يلعب الحلم إذًا لدى العديد من الفنّانين دورا مهمّا في عمليّة تمثّل الصّور الخياليّة لأنّ ما تظهره صورة الحلم يمكّن الرّائي من معرفة الموضوع الظّاهر الّذي يكون متمثّلا في ذات الصّورة المتشكّلة. يمكن في هذا الإطار أن نتساءل: كيف يتسنّى للفنّان ارتسام صور فنطاسيّة حالمة وما علاقتها بالواقع الحاضر؟
للإجابة على هذا السّؤال وعند قراءتنا لمعرض الفنّان التّشكيلي المصري أحمد جمال عيد، نُلاحظ أنّ ما يتراءى لنا بادئ الأمر، لاسيما عند انفتاحنا على بعض من هذه الأعمال الفنيّة، أنّها تحمل صورا تشبه أشخاصا وبيوتا وأغراضا يوميّة ومشاهد طبيعيّة في الواقع، لكنّها تختلف في مستوى التمثّل والتصوّر واللّون والحجم وفي كلّ مظاهر ظهورها. فنجد اختلافًا واضحًا بين الصّورة الفنيّة المتمثّلة والصّورة الواقعيّة الحاضرة لكنّنا نُحاول الإمساك بحقيقة وحيدة وهي أنّ المشهد المقصود والمتشكّل في صورة فنيّة ليس هو المشهد ذاته في الواقع، لأنّ الّذي أمامنا صور متشكّلة تشكيليًّا تتمظهر عبر صور الحلم والخيال والذّاكرة والاستحضار ومن خلال رؤى قد تتمظهر من خلال هيآت وأشكال وشحنات ومظاهر وألوان مختلفة.
تظهر هذه الصّور أحيانًا بلون التّراب والسّماء والعشب والصّحراء والبنفسج والأحجار والرّمال والآثار والأمجاد والأفراح والحروب والدّماء والأحزان والآلام... وتبدو أحيانًا أخرى رماديّة يكسيها لون الزّهر والبنفسج ضمن فسحة بحريّة يانعة أو صحراويّة قاحلة أو بين أزقّة جدباء وديار مهجورة... وقد تتبدى بأيّ لون مغاير يحمل ذكرى عبق الورد المورّد وعطر البنفسج اليقظ. وبطيوف تفوح منها صور خياليّة حالمة وحيوانات فنطاسيّة مراقبة ومترقّبة تترصّد البراءة الطّفوليّة فتُتابع مختلف صور الإدراك الجسدي... أو قد يُضفي الفنّان على أعماله الفنيّة بعضا من أنوار ضياء الشّمس ليكشف عن تشكيلة فنيّة لصورة امرأة شابّة بهيّة المطلع أو صورة طفل حالم أو صورة امرأة عابرة أو تشكيلة لأحد مباني المعالم التّاريخيّة المقدّسة... كصورة لمسجد قديم. يسعى الفنّان إلى تشكيل شخوص باهتة وترسيمات شاحبة مصفرّة وديار مهملة ليُرسل معها تشكيلات لونيّة مشعّة فتنبلج للرّائي صور زهيّة تُنير عتمة بعض من الآثار المنسيّة. كما يستحضر الفنّان أحمد جمال عيد صورا من أعماق الذّاكرة المنسيّة فتأتي مجمّلة بطقوس الحلم. فقد لا تتطابق كلّ هذه الألوان والصّور والتمثّلات التّشكيليّة في شيء مع اللّون والمشهد الموجود في الواقع الحاضر، لكنّها تحمل موضوعًا شبيهًا بالواقع المستحضر فتنبلج للرّائي صور استطيقيّة حالمة.
بهذا الاعتبار، لم يعد الموضوع كما يرى ميكال دوفران في كتابه فنومنولوجيا التّجربة الاستطيقيّة هو الذي يسائلني، وإنَّما هو موضوع فعليّ و«إنتاج فعل» لموضوع مَّا. ومعنى ذلك فإنّ كلّ هذه المفاهيم المرتبطة بالحلم والمخيّلة والذّاكرة والاستحضار... يحاول الفنّان أن يبسطها كفضاء تشكيلي معطى وموضوع فعلي بما هو موضوع فنّي. فأن ندرك بالمعنى الاستطيقي ليس أن نعرف الموضوع الحالم أو الواقع ولكن أن نفعل تشكيليًّا واستطيقيًّا ولأنّ الصّورة التّشكيليّة ما تزال عند لحظة صمتها ظاهرة قبل أن تُدرك، وتلك هي التّجربة التي يخوضها الإدراك عند لحظة القراءة متعرّفا إلى مدى عمقها، وما يمكن أن تحمله المخيّلة من طبيعة وروح ضمن تجربة الحضور، الذي يختلف عن الظّهور والتمثُّل المنفتح على الفعل الاستطيقي.
إنَّ الصّورة هنا في انتظار هذا الحضور الاستطيقي الّذي سيُثبته لها الآخر القارئ بواسطة الإدراك الاستطيقي، المنفتح على الأثر الفنيّ ولأنّ الأثر هو إنتاج إنساني مرماه المتميّز أن يتجسّد وينفتح استطيقيّا ولأنّ الفنّان أو القارئ لا ينتج شيئا من دون قصديّة أو فعل وظيفي وحيث لا وجود لصور في الوعي بقدر ما توجد صورة تحدّد بعض أنماط من الوعي، لتصبح «الصُّورة هي الوعي بشيء مَّا» حسب جون بول سارتر في كتابه المتخيّل. لذلك، يمكن أن تتحوّل صور الحلم إلى موضوع فنّي إستطيقي. وعليه، تتحرّر الصّورة من كلّ إلغاز صوريّ أو شكليّ وتُباشر عطاء ما هو حسّي ومحسوس تشكيلي كواقع أصلي وكمعيش حاضر وكحدث فينومينولوجي في مجال التّجربة الاستطيقيّة. لذلك، فإنّ عمليّة قراءة أيّ عمل فنّي تفترض وجود تجربة استطيقيّة ذاتيّة نظرا لارتباطه بالإدراك والحُلم والتمثّل.
لكن، ما يكشفه العمل الفنّي كصورة خياليّة حالمة ليس له معنى إلاّ بالإدراك الفنّي والاستطيقي وحيث يمكن تحديد تشكيلة هذا العمل وبنيته وحركته وعلاماته وأشكاله وصوره ودلالاته... وكلّها تحمل وحدة ضمنيّة، وحدة شبيهة بالذّات أو هي «شبه ذات» بالمعنى الدوفراني وتكون أساسًا لكلّ تجربة فينومينولوجيّة حيّة بما هي تجربة الأصلي، المعبّرة عن وعي قصدي وعن تصوّر يؤوّل عمليّة الإدراك كفعل، بما أنّ الإدراك هو الذي يفتح القارئ على ما هو فنّي إنساني وعلى تمثُّلات خياليَّة حرَّة فنيّة ومبدعة مبتكرة وحيث تبدو عمليّة القراءة الاستطيقيّة حصيلة ضروريّة وملتزمة لكلّ هذه الأعمال المدركة فنيًّا المتمثّلة بالحلم.
………………
د. وصال العش
جامعة المنستير، تونس.