واقع الدكتور معيط الموازي!
دعك من قول الشاعر "لا تحكمنَّ بما سمعتَ على الورى.. إن شئتَ عدلًا فاحكمنَّ بما ترى"، فمعناه قد يكون معتادا، في حين أن خاتمته "فَلَرُبَّ أنباءٍ أتتكَ مريبة.. أعمَت عيونَكَ عن حقيقةِ ماجرى" تحمل إشارات كثيرة قد تكون غامضة عند البعض، إلا أنها متأصلة فيما دار بجلسة مجلس النواب الأخيرة لمناقشة الحساب الختامي للموازنة العامة 2022 – 2023، بحضور وزير المالية د. محمد معيط.
الوزير -ولشخصه كل الاحترام-، رد على ما طرحه النائب عبد المنعم إمام رئيس حزب العدل، من تجاوز سقف الاقتراض الحكومي من البنك المركزي، حيث أكد معيط أن وزارته لم تخالف القانون فى مسألة السحب على المكشوف من البنك المركزى، وتلتزم فى ذلك بما يحدده قانون البنك المركزى المصرى من شروط وضوابط.
أشار الوزير إلى أن لديه رصيد حساب السحب على المكشوف، وأن هناك تسويات تتم في النهاية، إلتزاما بقانون البنك المركزي الملزم، وأكد: «الموقف القانوني لهذا الرصيد سليم 100%، إلا أنه أحيانا يحدث تجاوز لأن عملية السحب يومية وعندى التزامات، لكن لا نخالف القانون، تنتهى السنة وأنا مطبق القانون ولا أتجاوز نسبة الـ10% المقررة بالقانون».
أكمل كذلك د. معيط: أدفع على كل جنيه أسحبه من البنك المركزي مبالغ، وإذا تجاوزت الحد المسموح به يضيف عليّ مبالغ زيادة فليست مصلحتي أن أتجاوز، في نهاية السنة في 30 يونيو لابد أن يكون الرصيد متقفل، بنهي السنة وغلق مضبوط لا يتجاوز 10%"، البنك المركزي لا يعطيها لنا مجانا، بدّفع متوسط سعر الإقراض والخصم، وإذا تجاوزت مش من مصلحة وزير المالية يتجاوز.. تطبق عقوبة".
حتى هنا لا مشكلة.. فقد طرحنا ظاهرة تتسبب في إشكاليات كثيرة في المشهد الاقتصادي وقد رد عليها وزير المالية نافيا حدوثها من أساسه، لكن بمتابعة البيانات الرسمية ذاتها ومنها تقارير البنك المركزي يتضح الواقع الموازي الذي يتحاكى بلسانه الوزير خاصة مع إشارات لقيام الحكومة بسداد 400 مليار جنيه للمركزي من أصل الحساب مكشوف الذي بلغ 2 تريليون تقريبا، بما رتب هبوط رصيد الاقتراض محل الجدل في نهاية مارس الماضي بنسبة 24% على أساس شهري إلى 1.697 تريليون جنيه، وأيضا تتنافى تلك التصريحات أيضا مع التعهدات التي ذكرها تقرير خبراء صندوق النقد الدولي، نقلا عن السلطات المصرية بالكف عن تجاوز وزارة المالية لسقف الاقتراض المباشر من البنك المركزي، خاصة وأن مثل هذا الاقتراض يهدد بتقويض الاقتصاد من خلال زيادة المعروض النقدي والتضخم ويتسبب في ضعف سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية.
ولمن لا يعلم، فقد تحدثت طويلا في مسألة تجاوز حد السحب من المركزي أو ما يعرف بـ"تسييل الديون أو التمويل التضخمي"، التي يقوم من خلالها البنك المركزي باستخدام سلطاته القانونية لخلق الأموال لإقراضها للحكومة من خلال توفير التمويل بشكل مباشر عن طريق السحب على المكشوف غير المحدود للحكومة، مما يسمح لها بتجاوز سوق السندات السيادية واصدارته التقليدية.
فإن تطور تسييل الديون في مصر ليس وليد اللحظة ووفقا لبيانات المركزي في الربع الثالث من 2023، فقد وصل صافي الاقتراض للحكومة من البنك المركزي (إجمالي الاقتراض ناقص النقد/الودائع في حساب الحكومة لدى البنك المركزي) 1،941.4 جنيه مصري بينما كان هذا الرقم دون الـ 100 مليارًا في عام 2010، وقد ظل ينمو بقوة كبيرة حتى عام 2016 ثم عاود في الانفجار مرة أخرى بدءًا من عام 2021.
بينما أن القانون ينص على أن تمويل العجز بهذا الشكل لا يجب أن يتعدى 10% من متوسط إيرادات الخزانة العامة ويفرض سداده في عام واحد، ورغم ذلك فالمبلغ المقترض تقارب قيمته مرة ونصف قيمة إيراد الحكومة الضريبي كاملا للعام الحالي و20 ضعف المسموح طبق للقانون والذي ينص في المادة 47 أن تكون مدة هذا التمويل ثلاثة أشهر قابلة للتجديد لمدد أخرى مماثلة، ويجب أن يسدد بالكامل خلال اثنی عشر شهرًا.
أزيدكم من الشعر بيتا.. هذا الرصيد والمُعنون بـ Net Claims on Government في حسابات المركزي لم يقارب من الحد القانوني في أي اقفال خلال آخر 6 أعوام على الأقل وبذلك يظل متجاوزًا في الإلتزام شرط حد السحب الذي لا يتعدى الـ 10٪ من الايراد وأيضا شروط السداد خلال عام التي نصت عليها مادة القانون.
وتحرك النائب الصديق د.عبد المنعم إمام، متقدما بطلب إحاطة بشأن تجاوز مدفوعات البنك المركزي للحكومة الحد المسموح قانونا، -محل الحديث خلال الجلسة العامة- مستعرضا تبعات ذلك وخطورته البالغة على التضخم وزيادة الأسعار، وهو ما يستدعي إعمال اليات السوق المفتوح لسحب المعروض النقدي المتضخم، خاصة مع ورود تدفقات نقدية دولارية للحكومة المصرية من صفقة رأس الحكمة تستطيع أن تستبدلها طرف البنك المركزي لتحييد آثار تلك السيولة.
يا سادة.. إن أولى سبل الحل هي الاعتراف بوجود المشكلة ذاتها، أما دون ذلك فلا علاج، وفي شأن -حدود السحب-، فإن الأرقام صريحة بشكل لا لبس فيه خاصة وأنها لا تكذب قط، أما السيد وزير المالية فلا أعلم عن أي واقع ولا عن أي إلتزام يتحدث، وإن دلت تصريحاته على واقع موازٍ يسوده الحرص على عدم الالتزام تماما بل وعدم الاعتراف بالخطأ الذي لا نهدف من رصده سوى انضباط المشهد وسد منافذ التضخم، أو على الأقل تبرير آخر يصادف ميزان العقل خاصة وأنه لا محال سوف يكون من بين السامعين عاقلًا ناقدًا يتتبع حقيقة ما جرى.