طموحك.. مستقبلك
نقرأ هذه الحكمة في سفر الأمثال: “مُساير الحكماء يصير حكيماً، ومؤانس الجُهّال يصير شريراً” (20:13). يُحكى أن رجلاً صيّاداً وجد عشَّ نسور، وكان فيه نسر حديث الولادة، فأخذه ووضعه وسط فراخ الدجاج لينمو معهم، وبعد عدّة أسابيع كبر النسر، ولكنه تعوّد حياة الدجاج يمشي مثلها على الأرض، ولا يَهُمّ بالطيران كأنما فقد غريزة التحليق في الأجواء العالية. وعندما اضطر الصيّاد أن يسافر، أراد أن يطلق الحرية للنسر، فأمسكه وحاول أن يرمي به في الفضاء ليطير، لكن النسر لم يفتح جناحيه، ولم يُبدِ أي رغبة في الطيران. فحمله بعيداً عن الدجاج ثم رفع رأسه إلى الجو في اتجاه الشمس، وعندما انعكست أشعة الشمس في عيني النسر، أخذ ينتفض ويخفق بجناحيه بكل عنفٍ وقوة، ثم أفلت من يد الصيّاد ليسبح في الأفق البعيد جبّاراً عتياً.
نتعلّم من هذه الأمثولة أن حال الإنسان أثناء حياته على الأرض تكون على هذا المنوال، فهو وليد محيطه الذي يعيش فيه، يتأثر بآراء ومبادئ وأعمال وأخلاق مَنْ حوله، كما كان حال النسر مع الدجاج. لكن يكفي أن يبدّل الإنسان محيطه إذا كان سطحياً أو بلا معنى، ليدخل في جوّ جديد لا يعاشر فيه سوى النفوس النبيلة والطيبة والتي تسعى للخير والصلاح، ويتقرّب من القلوب العامرة بالأخلاق، ولا يطالع إلا كل ما لذّ وطاب من مغامرات ناجحة، وإنجازات الأبطال الذين أفادوا البشرية جمعاء، ولمعوا في ميادين العلم والاختراع والفن والطب والرقي بالإنسان والبيئة.
ومما لا شك فيه أن الشخص الذي يعيش في مثل هذا الأجواء، سيشعر بالدماء تجري في عروقه ويتعلّم منهم، ويتغذى بذات الطموح الذي يساعده على التحليق هو أيضاً، وراء من حلّقوا من نسور البشرية. فالإنسان الطموح والملتزم بعمله، يملك قدرات يستطيع بها الوفاء بمسئولياته، فهو صاحب إرادة وشجاعة ويعرف قدر ذاته وحدودها وإمكانياتها، لأن البطولة وعلوّ الهمّة والأخلاق النبيلة والإخلاص لله والصدق في معاملة الناس، وغيرها من الفضائل الكثيرة غير مرتهنة بعمر، أو مقتصرة على فئةٍ من الناس دون غيرها.
كل واحدٍ منّا يرث مواد البناء لشخصيته وتمنحه بيئته الأرض بمواردها، ولكن يبقى عليه تشكيل عمله وتجميله حسب إخلاصه وطموحه وصموده أمام العراقيل والصعوبات التي تواجهه في هذه الحياة. إذاً يجب على كل واحدٍ منّا أن يبذل في عمله وواجبه كل كيانه ليكون عند شرف الكلمة والوعد، كما يجب أن نتطلع إلى الصعب لتحطيمه، وإلى السامي للوصول إليه، والجميل لنشره بين الآخرين.
ومَنْ يتحلَّى برهافة الحس وفيض الحيوية وسخاء النفس وحُب المغامرة، سيفعل المستحيل من أجل المحيط الذي يعيش فيه. وكما يقول الشاعر العربي: “ومادام في الدنيا سموٌّ ورفعةٌ، فما أنا من يرضى ويقنع بالأردأ”. فكل إنسانٍ طموح لا يقنع بما قام به، مهما بلغ من الإتقان، لكنه يسعى دائماً إلى الأفضل والأجمل. فالطُموح في النفس، دليل علوّ الهمّة والنُبل، وهذا ما يميّز شخصاً عن الآخر وكأنه من غير طينة البشر الخاملين.
هكذا كان وسيظل دائماً منهج النفوس الطموحة التي لا ترضى أبداً عن كل ما تحققه من إنجازات، بل تنظر دائماً إلى الأمام، إلى الأحسن، إلى الأسمى! ومثل هذه النفوس النبيلة لا تقنع بما تستطيعه أيّاً كان، ولكنها تحاول في كل حين أن تتخطى ذاتها وقدراتها وتواصل السعي حتى تبلغ حد النبوغ والإبداع.
والإنسان الطموح يقظ لا يغمض له جفن، دائم التحفز ولا يبالي بوهنٍ. إذاً نستطيع أن نستخلص من هذا كلّه، إن الطموح هو التمرد على الخمول والكسل، والتغلّب على الحياة العادية الروتينية والرتيبة، وبذل أقصى ما نستطيع بذله من جهد، ثم محاولات تليها محاولات أخرى، للحصول على كل ما هو ممكن من قوى وحيوية حتى النفس الأخير.
وحسب القول المأثور: “إن العمل يفجّر مواهبنا، لكن البطالة تقتلها. كالحديد الذي لا تتداوله الأيدي بالعمل، يصدأ”. كما يجب أن نعلم جيداً بأن الطموح ليس مقتصراً على الانتصارات الحربية فقط، أو المكاسب الأرضية، لكنه قبل كل شيء، نزوع إلى رقيّ الكيان الإنساني في جميع جوانبه ومختلف ميادين نشاطه وتنوّع ميوله. كما أنه كمال إنساني شامل نريد تحقيقه مهما كان الثمن باهظاً. وإذا كنّا من أصحاب الهمم السامية، لا يكفينا أن نهتم بتهذيب وسمو أنفسنا فقط، بل يجب علينا أن نمد أيدينا لنسمو بالنفوس المحيطة بنا. ونختم بالقول المأثور: “عندما أرى الأحسن، لا يعود يهمني الشيء الحسن”.