يحيى ياسين يكتب: «رمادي» (قصة قصيرة)
“بُهتٌ هنا”، هكذا أجاب الرفيق بينما يتكئ وقد تخللت الدموع عيناه، ثم أشاح بيده فاعتدل فأخفى وجهه وأحنى ظهره محتضنًا أرجله وترتعش أطرافه حتى جاءت نوبته فصُرع جسده وأغشي.
“رمادي”، “خذلان”، “بؤس”، همهمة غير منقطعة بينما يستفيق من غفلته، كانت أرجله تنتفض كالذي يُصارع ثورًا، يداه تُشيحان، ووجهه شاحب، تارةً يُطيل النظر نحوي، وأخرى تشعر أنّه لا يراك كأنّما يُخاطب أحدًا “جلوسٌ” بيننا.
يحيى ياسين يكتب: المدينة الجامعية “باريس” على أرض مصرية
وُلد “الباسم” مسمًّى وصفةً لأب في بدء الثلاثين من عمره، يتكسب رزقه بيومه، ليس له إرث ولا مال، ولأم لم يُجاوز عمرها منتصف العشرين، تعول ثلاثًا من الإناث، كافحت كثيرًا بين شيخ ومُعوّذ وإلى قارئ ثم دجال كي تُرزق به فكان مولده نصرًا لها ولهم.
في أركان قرية ريفية ليس بها مدرسة ولا مشفى ولا يعمل قاطنوها شيئًا سوى الفلاحة شب الفتى، ما اشتد له عود ولا كبُر له بدن حتى استفاق بين صبية مثله يقدحون بالتراب في عمل حسبوه مزحة يلهون فيها، سرعان ما صارت المزحة فرضًا يستوجب العقاب إن أغفل يومًا.
يحيى ياسين يكتب: عذرًا يا قدس فالعرب “عندهم ظروف”
يقول الرفيق لا أدري كم كان لي من العمر حين وجدتني أحمل فوق عاتقي رملًا نظير قوت يومي، وأبي يتعجلني بلا مَهَلٍ، كنت أعود للمنزل وقد تجرّحت أطرافي وجسدي يؤلمني بينما أميل بجنبي في فراشي الخشن، اعتدت ألم الجسد فقد كان جيدًا إن قورن بألم الجوع حين يتوقف عملي.
بين ثلاث إناث ووالديّ كانت أمّي تصارع كي تنجب ذكرًا يحمل فوق رأسه خبزًا لها ولنا فتجلس فخورة بذكورها وتُقبح إناثها اللاتي تتعجل زواجهن بينما لا زلن صغارًا تُضفّر رؤوسهن، فما كان لأمي ما أرادت حتى أقبلت “بئيسة”، فما جاءت وحدها بل بـ “لصيقة” لها “تعيسة” فما رأيت يومًا أكثر بؤسًا مر على كوخنا من ذلك اليوم.
ما أظن أمّي باتت ذاك اليوم تتألم من مخاضها قدر أنامل أبي الذي أصبحها بقبلة على جسدها بسوطه وأمساها بمثلها بعد أن خابت آماله في عبد جديد يعينه قضاء فقره، آوى الجميع حينها للفراش يتضور جوعًا كأننا عوقبنا جميعًا بقدومهن. (يُتبع)