هدى شعراوي.. نسوية أرستقراطية رسبت في اختبار فاطمة وليلى
نور الهدى محمد سلطان الشعراوي، امرأة لدت في صعيد مصر بمحافظة المنيا، في 23 يونيو عام 1879، وزاع صيتها كثيرًا كرائدة للعمل والنشاط النسوي في مصر، فهي تُعد من الجيل الأول للنسويات. وتوفيت في مثل هذا اليوم 12 ديسمبر في عام 1947.
نور الهدى وُلدت طفلة لأسرة من الطبقة الأرستقراطية في مصر، فهي ابنة محمد سلطان باشا، رئيس مجلس النواب المصري الأول في عهد الخديوي توفيق، الذي توفي وهي في عمر الخامسة، فأصبح أبن عمتها علي شعراوي وصيًا على أملاكها هي وأخيها، وفي سن الثانية عشر رتبت والدتها خطبتها لابن عمتها والواصي عليها علي شعراوي، الذي يكبرها بما يقارب الأربعين عامًا. وتم الزواج في العام التالي.
بعد زواج نور الهدى بعلي شعراوي، غيرت أسمها ليُصبح هدى شعراوي، وأنجبت أبنائها بثينة ومحمد، ولكن تلك الزيجة لم تكن سعيدة بالنسبة لهدى، حيث لم تحظى بتلك الحرية التي حظيت بها في منزل أبيها، فتقول هدى في مذكراتها: “لا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابي حتى لا يتسلل دخانها إلى حيث يجلس الرجال فيعرفوا أنه دخان سيجارة السيدة حرمه، إلى هذا الحد كانت التقاليد تحكم بالسجن على المرأة وكنت لا أحتمل مثل هذا العذاب ولا أطيقه”.
في عام 1919 خرجت هدى شعراوي على رأس مظاهرة نسائية للمطالبة بالافراج عن سعد زعلول وشركاه، ومنذ ذلك الوقت بدأت في طريقها نحو السياسة والنشاط الاجتماعي، حتى باتت واحدة من أهم الأسماء التي تُذكر في تاريخ الحركة النسائية المصرية الحديث.
ولكن النسوية التي طالما طالبت بمساواة الرجل بالمرأة وأعطاء النساء حريتهن لتقرير مصائرهن، ودافعت بكلمات وخطب رنانة عن حق النسوة في كل شئ يرغبن فيه، حينما وقعت في اختبار حقيقي لإثبات مصداقية مطالبها، اختارت أن تكون الأرستقراطية التي ترى النساء من المستويات الاجتماعية الأقل ليس لهن حق في المساواة بزويهن من سيدات المجتمع والسلطة والسياسة.
في ذات الأيام دعت هدى شعراوي مطربة شابة أسمها فاطمة سري لإحياء حفل في قصرها مقابل 20 جنيهًا، وكانت سري آنذاك مطربة صاعدة، فذهبت وأحيت الحفل بالفعل ولاقت استحسان الجميع، بمن فيهم أبن هدي شعراوي، مُحمد.
الأبن المدلل للنسوية الكبيرة بات يلاحق فاطمة سري من حفل إلى آخر ليُقنعها بحبه البالغ لها، ولأن ما فعله محمد كان ملفتًا للنظر، وقعت في حبه فاطمة، الأمر الذي تطور سريعًا ونشرت أحد الصحف قصة حب ابن هدى شعراوي بمطربة صاعدة، الأمر الذي أغضب فاطمة ولم يغضب محمد الذي قال لها: “أنا عاوز الدنيا كلها تعرف إني بحبك”.
ولأن فاطمة كان لها تجربة سابقة، ولأن الصحف ظلت تلاحق قصة حبها لمحمد، علم طليقها وغضب، فقرر أن يحرمها من ولديها كعقاب لها على علاقتها العاطفية بمحمد، الأمر الذي جعل “أبن الذوات” يقرر الانسحاب بعد أن اقام معها علاقة عاطفية، وكتب لها “شيك” به مبلغ مالي كبير، في إشارة منه إلى أنه مقابل العلاقة التي مارسها معها، فما كان لفاطمة سوى أن تمزق “الشيك” وتُلقيه على الأرض وتدوسه بقدميها.
فاطمة الغاضبة نجحت في الحصول على ورق زواج عرفي من محمد، وكتب إقرارًا على نفسه بأن الجنين في رحمها هو ابنه، وجاء في الإقرار: “أقر أنا الموقع على هذا محمد على شعراوي نجل المرحوم على باشا شعراوي، من ذوي الأملاك، ويقيم بالمنزل شارع قصر النيل رقم 2 قسم عابدين بمصر، أنني تزوجت الست فاطمة كريمة المرحوم سيد بيك المرواني، المشهورة باسم فاطمة سري، من تاريخ أول سبتمبر سنة 1924، وعاشرتها معاشرة الأزواج، وما زلت معاشرًا لها إلى الآن، وقد حملت مني مستكنًا في بطنها الآن، فإذا انفصل فهذا ابني، وهذا إقرار مني بذلك. وأنا متصف بكافة الأوصاف المعتبرة بصحة الإقرار شرعًا وقانونًا، وهذا الإقرار حجة عليَّ تطبيقًا للمادة 135 من لائحة المحاكم الشرعية، وإن كان عقد زواجي بها لم يعتبر، إلا أنه صحيح شرعي مستوف لجميع شرائط عقد الزواج المعتبرة شرعًا”. وكان هذا في يوم 15 يونيو 1925.
علمت هدى شعراوي، المدافعة الأولى عن حقوق المرأة آنذاك بتلك الواقعة، فثارت لأن تلك الزيجة بمثابة عار على العائلة ولا تليق بابن هدى شعراوي وسليل أحد أكبر العائلات في مصر، فطلبت منه أن ينهي تلك العلاقة، وعلى الصعيد الآخر أستغلت نفوذها وسطوتها للضغط على فاطمة سري.
الأبن محمد ظل يرواغ الأم والزوجة حتى رضخ لضغوطات أمه، وأخذ الاقرار من زوجته ومزقه ولكن فاطمة كانت قد اعطتة نسخة طبق الأصل واحتفظت بالنسخة الأصلية معها، وما كان من ابن هدى شعراوي إلا أنه سبها وأنكر علاقته بها وبالجنين، على حسب تعليمات أمه.
فأرسلت فاطمة سري رسالة إلى هدى شعراوي، المناضلة الكبيرة التي تدافع عن حقوق المرأة، تستغيث بها من ابنها، وقالت: “سلامًا وبعد، إن اعتقادي بك وبعدلك، ودفاعك عن حق المرأة، يدفعني كل ذلك إلى التقدم إليك طالبة الإنصاف، وبذلك تقدمين للعالم برهانًا على صدق دفاعك عن حق المرأة، ويمكنك حقيقة أن تسيري على رأس النساء مطالبة بحقوقهن، ولو كان الأمر قاصرًا عليَّ لما أحرجت مركزك، لعل أنك أم تخافين على ولدك العزيز أن تلعب به أيدي النساء وتخافين على مستقبله من عشرتهن، وعلى سمعته من أن يقال أنه تزوج امرأة كانت فيما مضى من الزمان تغني على المسارح، ولك حق إن عجزت عن تقديم ذلك البرهان الصارم على نفسك، لأنه يصيب من عظمتك وجاهك وشرف عائلتك، كما تظنون يا معشر الأغنياء، ولكن هناك طفلة مسكينة هي ابنتي وحفيدتك، إن نجلك العزيز، والله يعلم، وهو يعلم، ومن يلقي عليها نظرة واحدة يعلم ويتحقق من أنها لم تدنس ولادتها بدم آخر، والله شهيد، طالبت بحق هذه الطفلة المعترف بها ابنك كتابيًا، قبل أن يتحول عني وينكرها وينكرني، فلم أجد من يسمع لندائي، وما مطالبتي بحقها وحقي كزوجة طامعة في مالكم، كلا! والله فقد عشت قبل معرفتي بابنك، وكنت منزهة محبوبة كممثلة تكسب كثيرًا، وربما أكثر مما كان يعطيه لي ابنك، وكنت متمتعة بالحرية المطلقة، وأنت أدرى بلذة الحرية المطلقة التي تدافعين عنها، ثم عرفت ابنك فاضطرني أن أترك عملي وأنزوي في بيتي، فأطعته غير طامعة بأكثر ممَّا كان يجود به، وما كنت لأطمع أن أتزوج منه، ولا أن ألد منه ولدًا، ولكن هذه غلطة واسأليه عنها أمامي، وهو الذي يتحمل مسؤوليتها، فقد كنت أدفع عن نفسي مسألة الحمل مرارًا وتكرارًا، حتى وقع ما لم يكن في حسابي، هذه هي الحقيقة الواقعة وانتهى الأمر”.
وتابعت: “والآن يتملص ولدك من كل شيء، ولا يريد الاعتراف بشيء، وقد شهد بنفسه من حيث لا يدري بتوسيطه كثيرين في الأمر، وما كنت في حاجة لوساطة، ولو كان تقدم إليَّ طالبًا فك قيده لفعلت، وكانت المسألة انتهت في السر، ولم يعلم بها أحد، فعرض عليَّ في الأول قدرًا من المال بواسطة علي بك سعد الدين سكرتير عام وزارة الأشغال، وبواسطة الهلباوي بك المحامي الكبير وغيرهم ممن حضروا إليَّ ظانين أنني طامعة في مالهم، وأنه في إمكاني إنكار نسب ابنتي إذا أغروني! ولكنني أخاف إلهًا عادلًا بأنه سيحاسبني يومًا عن حقوقها ـ إن لم تحاسبني هي عليها ـ فلم يجد محمد مني قبولًا للمال، وعندما وجد مني امتناعًا عن إنكار نسب ابنته سكت عني تمامًا، فوسطت فهيم أفندي باخوم محاميه، فاجتهد في إقناعه بصحة حقوقي وعقودي واعترافه بابنته، وتوسط في أن ينهي المسألة على حل يرضي الطرفين، فلم يقبل نجلك نصيحته بالمرة، وكان جوابه أن ألجأ برفع دعوى عليه ومقاضاته، وهو يعلم تمامًا أن نتيجة الدعوى ستكون في صالحي، فلا أدري ماذا يفيده التشهير في مسألة كهذه سيعلم بها الخاص والعام، وسنكون أنا وانتم مضغة في الأفواه، وأنت أدرى بجونا المصري وتشنيعه، خصوصًا في مسألة كهذه، وهذا ما يضطرني إلى أن أرجع إليك قبل أن أبدأ أية خطوة قضائية ضده، وليس رجوعي هذا عن خوف أو عجز، فبرهاني قوي ومستنداتي لا تقبل الشك وكلها لصالحي، ولكن خوفًا على شرفكم وسمعتكم وسمعتي، ولو أنني كما تظنون لا أبالي، فربما كانت مبالاتي في المحافظة على سمعتي وشرفي أكثر من غيري في حالتي الحاضرة، فهل توافقين يا سيدتي على رأي ولدك في إنهاء المسألة أمام المحاكم؟ أنتظر منك التروي في الأمر، والرد عليَّ في ظرف أسبوع؛ لأنني قد مللت كثرة المتداخلين في الأمر.. ودمت”.
لم تستجب هدى شعراوي لتلك الكلمات إطلاقًا بل سعيت بكل سلطاتها وعلاقاتها للضغط على فاطمة، ولكن زوجة الابن لم ترضخ ورفعت أول قضية إثبات نسب في مصر، وقالت عن هدى شعراوي: “لا يدهشني أكثر من أن هدى شعراوي تقف مكتوفة الذراعين أمام ابنها وهي ترى سيدة تطالب بحقها وحق ابنتها، في حين أنها تملأ الصحف المحلية والأجنبية بدفاعها عن حق المرأة”.
بعد سنوات من الجلسات أمام المحاكم والضغوط العنيفة التي تعرضت لها فاطمة سري من هدى شعراوي، إذا بالمحكمة الشرعية تحكم بأن الطفلة ليلى هي ابنة محمد شعراوي، الأمر الذي صار حديث المجتمع كله فما كان لهدى شعراوي سوى أن تقبل حكم المحكمة.
كانت تلك الواقعة الاختبار الأكبر في حياة النسوية المدافعة عن حقوق المرأة، التي فضلت أرستقراطيتها ومستواها الاجتماعي على كل المبادئ التي لا طالما نطقت بها، فرسبت رسوب مهين أمام فاطمة سري وليلي أبنتها.