"أصون كرامتي"
• زمان أيام حكم الملك فاروق كان عنده عادة كده إن كل فترة يقابل الفنانين الشباب والقدام في حفلة بتتعمل يا إما في أحد القصور يا إما في الأوبرا الخديوية القديمة اللي كانت مكان الأوبرا الحالية.. يتعرف عليهم ويكرمهم ويتفرج على عروض مسرحية وهكذا.. مع الوقت بقى الحدث ده ومع تكراره مرة أو اتنين خلال السنة هدف بيسعى ليه معظم الفنانين.. أصل أنت هتقف قدام الملك وهتمثل قدامه وهيتعرف عليك فأكيد إن دي قيمة مفيش بعد كده يعني.. في يوم الفنانة الجميلة الراحلة مديحة يسري جالها مكالمة من الفنان سليمان نجيب اللي كان رئيس الأوبرا وقتها بيدعوها إنها تحضر حفلة في قصر عابدين مع مجموعة من الفنانين بحضور الملك عشان يشوفوا عرض باليه هيتعرض هناك.. مديحة واللي كانت لسه بنوتة شابة في بداية حياتها انبسطت جدًا بالدعوة خصوصًا إنها كانت أول مرة يجيلها دعوة ملكية في حياتها.. راحت اشترت فستان جديد يليق بالمناسبة اللطيفة دي.. لبست واتأنتكت وراحت في الميعاد فعلًا.. قابلت مجموعة من الفنانين الشباب والسياسين واتعرفت عليهم.. في الحفلات اللي زي دي جرت العادة إن الملك بيكون قاعد على الكرسي بتاعه وكل الحضور بيعدوا عليه واحد واحد ورا بعض يسلموا عليه وينحنوا ويبوسوا إيده!.. لما جه الدور على مديحة يسري سلمت على الملك بإيدها عادي وقالت له: (أهلًا يا مولانا).. سلام محترم وشيك وفي منتهى الأدب وكل حاجة باستثناء إنه كان بدون ما تنحني ولا تبوس إيده!.. كان الموقف غريب لدرجة إن الملك سأل سليمان نجيب مين البنت دي؟.. فقال له إن دي الممثلة الشابة مديحة يسري.
فاروق كان باين على وشه الامتعاض والضيق بس ماوقفش كتير عند اللقطة دي لكن سليمان نجيب لقط إن الموقف ده ضايق الملك.. بعدها بشوية راحت مديحة زي باقي المدعوين لـ غرفة الأكل عشان ياكلوا العشاء بتاعهم هي والضيوف فجرى وراها سليمان نجيب وقال لها: (مديحة إنتي إزاي تسلمي على جلالة الملك من غير ما تبوسي إيده؟).. مديحة اللي كانت لسه خبرتها في الحياة مش كبيرة أوي يعني اتصدمت لحظة من السؤال بس استجمعت شجاعتها وردت عليه بثقة: (لو الدعوة مكتوب فيها إني لازم أبوس إيد الملك ماكنتش جيت).. فقال سليمان: (لكن ده العرف وكل الناس عملت كده!).. فكان جوابها الحاسم: (أنا مش ببوس إلا إيد أبويا وأمي بس).. قالت الجملة دي وقررت إنها تسيب القصر فورًا بدون أي ثانية زيادة كنوع من الاحتجاج.. آه الموقف ده عطل مديحة في مشوارها الفني نسبيًّا، وآه خلّى فيه بعض التردد من بعض الفنانين إنهم يتعاملوا معاها على أساس إن دي اللي زعلت الملك فممكن قربهم منها يضرهم هما كمان لو قرر إنه ينتقم منها؛ بس الأكيد إن الكل فضل فاكر تصرف مديحة الشابة المفعوصة اللي انتصرت لكرامتها.
• في أوائل العشرينيات من القرن اللي فات الشاب الأمريكي والاس جونسون Wallace E. Johnson اشتغل نجار في ورشة كبيرة متخصصة في نشر الأخشاب.. غير إن بداية شغله كانت في بداية العشرينيات فالشاب نفسه برضه كان في أوائل العشرينيات من عمره.. بسبب حبه للشغلانة كان والاس في قمة التفاني للورشة.. مواعيد العمل الرسمية في المكان 8 ساعات.. لأ هو يشتغل فوق الـ16 ساعة!.. تميز، اختلاف، مهارة، وسرعة في إنجاز أى مهمة مطلوبة منه؛ كلها حاجات كانت مخلية والاس غير أى نجار أو عامل تاني في الورشة!.. عدد الساعات الكتير اللي بيشتغلها كانت نتيجتها مكافآت متتالية من أصحاب المكان تقديراً لمجهوده لدرجة إنه وصل لـ سقف المكافآت المتاح واللي مش هيقدروا يزيدوا عنه!.. يوم عن يوم كان بيثبت والاس رجله في المكان أكتر.. مرت السنين ووصلوا لحوالي 20 سنة كاملة وهو على نفس الدرجة من التفاني.. جاله خلالهم عروض كتير عشان يروح ورش تانية بمرتبات أكبر بس هو كان وصل لمرحلة عشق المكان نفسه.. طبعًا وعشان 20 سنة مدة كبيرة فأصحاب المكان اتغيروا أكتر من مرة.. المالك الأول مات وجه بعده أخوه وبعده جه ابنه.. مع كل مالك جديد بييجي كانت أهمية والاس في الورشة بتقل!.. ماتعرفش بقى بسبب غيرة المالك الجديد من الشهرة اللي عنده ولا حد من العمال التانيين كان بيضرب أسافين فيه بس أهو ده اللي كان بيحصل.
مع المالك الجديد خالص بدأ يكون فيه حالة من التغليس على والاس!.. عدد ساعات شغلك الأساسية هتكون 12 ساعة!.. تمام مفيش مشكلة أنا كده بقعد أكتر من الـ12 أصلًا!.. هنقلل مرتبك.. طيب مفيش مشكلة كده كده أنا عايش أنا ومراتي لوحدنا ومش هعمل حاجة بالفلوس الكتيرة وممكن نتعايش بمرتب أقل.. دا أنت لزقة!، طب إحنا عايزينك تشتغل 3 أيام بس في الأسبوع بدل 6 أيام.. خلاص حاضر مادمتم شايفين كده بس بعد إذنكم في الـ 3 أيام اللي هشتغلهم أنا هقعد 20 ساعة في كل يوم منهم مش بس 12 ساعة!.. يخرب بيتك دا أنت رخم رخامة!.. كل ما كانوا يحطوله كمين عشان يطفشوه كان هو بيلزق في المكان اللي شال معظم ذكرياته أكتر.. حتى لما مراته كانت بتعاتب عليه إن عليك بإيه ده كله كان بيرد عليها إن المسؤولين عن المكان أكيد أدرى بالمصلحة العامة للورشة وإنهم حتى مع التعديلات الرخمة اللي بيطلبوها منه فمحدش أهانه ولا اتكلم معاه بطريقة مش كويسة.
لحد ما في مرة استدعاه المالك عشان يتكلم معاه.. قال له بص يا عم والاس أنت النهاردة عندك 40 سنة، وأنا شايف إن قدرتك على الشغل قلت وكنت عايز أجيب عمال تانيين سنهم أصغر منك ويبقى أنت دورك إشرافي مرة ولا مرتين في الشهر تيجي تطل عليهم بمرتب بسيط رمزي!.. والاس قال له إن 40 سنة مش سن كبير ولا حاجة وإنه بالفعل بيشتغل شغل ضخم زيه زي اللي عندهم 20 سنة.. المهم إن المالك ماقدرش ياخد مع والاس حق ولا باطل وبقى متأكد إن أي سكة في الاتجاه بتاع التقصير في الشغل مش هتاكل معاه وإنه عشان يطفشه من المكان محتاج حاجة أكبر من كده!.. بدأ المالك يتعامل معاه بسخافة وإهانة!.. يزعق له قدام الكل.. يقول له ألفاظ مايصحش تتقال لواحد في سنه خصوصاً إن المالك أصلاً عمره 25 سنة!.. يكشر في وشه.. في مرة زقه وهو بيصحح له طريقة نشر قطعة خشبية معينة اللي هو كإنه بيقول له: (وسع كده أنت ولا فاهم حاجة).. طبعاً كل ده كان بيأثر في نفسية والاس تأثير ضخم.. لحد ما في مرة المالك شتمه قدام العمال في الاجتماع الأسبوعي اللي بيتعمل وعاقبه على غلطة هي مش غلطة أساسًا أكتر منها تلكيكة!.. هنا وصلت الرسالة لـوالاس اللي في نفس اللحظة قال للمالك قدام الكل برضه أنا ماشي ومش هكمل.. طبعًا كان ده اللي هما منتظرينه.
روّح والاس على البيت وقفل على نفسه، ودموعه غلبته.. ماكنش متخيل إن المكان اللي ضيع فيه 20 سنة من عمره يتصرف معاه بالشكل ده وبالظلم ده!.. مراته دخلت عليه وقالتله إنها مستغربة إنه أخد قرار المشي من المكان بسبب الموقف الأخير رغم إن التضييق اللي كانوا بيعملوه عليه بدأ من شهور أساسًا!.. رد عليها إن المالك قبل كده كان بيتكلم في حق المكان كـ شغل بس لما يوصل الأمر للإهانة؛ ده مرفوض وكرامته هي اللي أجبرته إنه يمشي مش التضييقات.. سألته عن الخطوة الجاية!.. ما هو إحنا مش هنقعد حاطين إيدينا على خدنا بعد ما باب الرزق الوحيد اتقفل في وشنا!.. في النهاية وصل لقرار مهم ومحفوف بالمخاطر.. أنا هرهن البيت اللي إحنا عايشين فيه ده وهنروح أنا وإنتي نعيش في شقة تانية صغيرة إيجار وهاخد الفلوس بتاعت الرهنية وهفتح بيها مكتب مقاولات لبناء وتصميم البيوت الصغيرة!.. طب هتعرف يا "ولاس"؟.. سألته مراته فجاوب: هجرب ولو إنتي معايا أكيد هقدر.
عملوا كده فعلًا، وفتح مكتب مقاولات صغير كان بيصمم بيوت منخفضة التكلفة مصنوعة من الخشب وفي منتهى الجمال.. عمل بيتين.. بعدها بيتين.. بعدها 5 بيوت مرة واحدة.. شوية بشوية بدأ اسم المكتب بتاعه يكبر.. 5 سنين من الشغل المتواصل والسمعة اللي عمالة تكبر، والفلوس الكتيرة اللي بقت معاه؛ خلّوه يفكر يعمل خطوة تانية أكتر خطورة.. أنا هفتح فندق صغير!.. فندق إيه يا عم والاس بس دي كده وسعت منك.. وليه لأ!.. فعلاً لقى شريك ودخلوا مع بعض سوا في إنشاء فندق فكرته الأساسية إنه يكون فندق محندق بس معمول بشياكة.. حصل فعلًا.. الفندق بقى فرعين وتلات فروع وأربعة.. سموه "هوليداي إن"، وبعد حوالي 10 سنين بقى "هوليداي إن" عبارة عن سلسلة فنادق مشهورة وليها فروع في كل مكان في العالم ولحد النهاردة بدأها راجل نجار بسيط كان مجتهد وعظيم في شغله وقبل إجتهاده كان عنده كرامة بقدر محافظته عليها بقدر ما نجح وحقق اللي حققه.
• كان عندي صديقة في الكلية اسمها حبيبة.. إنسانة مميزة وبسيطة وجميلة.. من أول سنة في الدراسة وإحنا فاهمين إن حسام وحبيبة بيحبوا بعض.. الحاجات اللي زي دي بتبان مهما حاول أصحابها يخبوها.. حرص حبيبة وخوفها على حسام كان مخلّيها لأى حد يعرفهم أو حتى بيتابعهم من بعيد هي "أمه" وحبيبته مش حبيبته بس.. ساندوتشات بتتجاب كل يوم من بيتها عشان ياكلها!.. حضورها لكل المحاضرات ثم إعادة كتابتها للمحاضرة على إيديها لحد ما عينيها بتتمقق من كُتر التركيز والكتابة عشان تديله المهم اللي جه في المحاضرة والباشا ماحضرهاش عشان كان عنده ماتش كورة!.. تشجيعها ليه في ماتشات الكورة لحد ما صوتها يتنبح في ماتش أصلًا مالوش لزمة!، وبالتالي برضه تنطيطها زي العيال الصغيرة لما يعمل باصة حلوة ولا يشوط كورة ملعوبة!.. حاجات كتير كانت بتحصل بتأكد للكل إن الأتنين دول ماينفعوش غير مع بعض.. بس بالنسبالي كنت شايف العكس.. حبيبة وحسام مش هيكملوا.. قولتها لـأحمد صاحبي فسأل باستنكار: ليه!.. رديت: عشان هي بتحبه أكتر.. سأل: وهو ده عيب؟.. رديت: عيب لو فضل مكمل كده.. خلصت المناقشة اللي ما أخدتش أكتر من الـ4 جمل دول ونسيت الموضوع.
مر ترم والتاني.. السنة التانية مرت برضه.. اتخطب حسام، وحبيبة في الترم الأول من سنة تالتة.. في الترم التاني بدأ وجودي أنا في الكلية يقل تدريجياً بشكل عام لحد ما بقى كل كام أسبوع مرة واحدة!.. بعد أطول فترة غياب وصلت لـ شهر ونص تقريباً رحت الكلية وقابلت أحمد وباقي الأصدقاء.. في نهاية اليوم وأنا مروح معاه قال لي على فكرة كلامك طلع صح، حبيبة، وحسام سابوا بعض!.. يمكن ده كان التوقع اللي ماكنتش أحب إنه يصيب.. وقفت.. سألته: بجد!، إزاي؟.. حكالي إن كان فيه كذا فعل ورا بعض وكلهم ممكن تصنفهم في إطار الجرح المتعمد لكرامة حبيبة حصلوا من حسام.. يروح يقف بالنص ساعة يضحك ويهزر مع واحدة هو عارف ومتأكد إنها مش بتحب حبيبة ودايمًا بتقول عنها كلام من وراها.. يتكلم مع حبيبة بشكل مش لطيف قدام الناس في الكلية!.. أصحابها عملولها عيد ميلادها في كافيه وكل الناس جت وحسام ماجاش!.. ليه؟.. عشان كان عنده ماتش كورة!، وماعتذرش عن الماتش، وهى كان عندها أمل إنه هيدخل عليهم في أى لحظة بس ماحصلش!.. بالمناسبة آه حبيبة دايمًا كانت بتعمل عيد ميلاد حسام في الكلية وهي اللي بتفتكر وبتتولى كل التفاصيل وتعزم الناس وبتخلّيه فعلًا يوم مايتنسيش بالنسباله، لكن هو ولا مرة عملها معاها!
لحد ما في يوم وهما خارجين مع 5 أصحابهم حصل نقاش في موضوع فـحبيبة قالت رأي.. حسام استخف برأيها قدام الكل.. حبيبة صممت على رأيها.. حسام قال: (إنتي غبية!، مابتفهميش!، ما قولتلك مش كذا).. سمعت الكلمة، ومشيت من غير ولا كلمة.. سابتهم ومشيت.. حتى لما حاول اللي كانوا معاهم ومنهم أحمد إنهم يخلّوها ترجع عشان الخروجة ماتبوظش رفضت!.. حتى لما حاولوا مع حسام نفسه إن روح صالحها وهاتها رفض باستهزاء على أساس قال يعني هي هتعمل عليا أنا مقموصة!.. غابت حبيبة عن الكلية يومين ودي أول مرة تحصل!، والغريب إنها ماكانتش بترد على أي تليفونات من أي حد برضه.. لما جت في اليوم التالت كانت ملامحها هي هي الطبيعية اللي الكل متعود عليها ولا كإن فيه حاجة حصلت.. محدش كان عارف إن مفيش أي تواصل حصل بينها وبين حسام!.. لما شافها في الكافتيريا حاول يستظرف معاها على أساس إنه هيعرف يراضيها كالعادة.. وهي قاعدة من أصحابهم جه حسام ووقف قدامها وضربها على وشها ضربة خفيفة بالقلم قال يعني بيهزر!.. المفاجأة إن حبيبة ردت له الضربة الخفيفة بـ قلم نزل رزع على وشه، ومعاه جملة واضحة صريحة وقدام الكل وبمنتهى الهدوء: (لو لسانك أو إيدك اتمدوا تاني هقطعهوملك!).. أحمد بيقول إن الموقف كله كان عبثي وغريب.. اللي الناس عرفوه بعد كده إن حبيبة قبل ما تيجي الكلية في اليوم ده عدت على بيت حسام الصبح وهو بره عشان ترجع لوالدته الشبكة بتاعته وبدون ما حد يعرف من أسرتها!، واليومين اللي أخدتهم غايبة فيهم كانت بتعمل إعادة تقييم للموقف كله قبل قرارها!.. ولما والدته سألتها عن السبب كان رد حبيبة اللي مازودتش عليه حرف: "داس على كرامتي".
الأديب نجيب محفوظ قال: (لا سعادة بلا كرامة).. بس هو الحقيقة مش لا سعادة بس!.. لا سعادة، ولا حب، ولا تقدير، ولا أي حاجة هيبقالها قيمة لو حذفت من معادلتها "الكرامة".. محاولة مس كرامتك بأي شكل من قريب أو من بعيد هي الضوء الأخضر للبُعد، وقفل الصفحة.. اللحظة اللي بتقرر فيها تتخلّى عن كرامتك عشان علاقة تكمل أو شغل يستمر أو وضع يطول شوية؛ هي بداية النهاية للنهاية.. إنسان بدون كرامة مايسواش، ومحدش له قيمة إلا بيها.. كما قيل: ثم إن يدي لا تُلوى، وقلبي لا يُهان، وأنا لا أسقط.