رائدات التضامن الاجتماعي.. سنوات الكدّ والعمل والنجاح تصارع "خيبة الأمل"
في الصباح الباكر، تستقل "رضا" التوك توك ووجهتها وحدة التضامن الاجتماعي، بمركز المراغة بسوهاج، حيث مقر عملها، بجسدٍ ينهكه المرض، تحاول جاهدة أن تغالب آلامها، وبيد تمسك "محفظتها" تحسب ما تبقى معها من أموال وأخرى ممسكة بشريط دواء الضغط وعينان حائرتين بينهما، تصارع حسبتها المعقدة.. فما تملكه بالكاد يغطي مصاريف التنقل في العمل وقوت يومها لتجبر على توفير الحباية خشية نفاذ الشريط، وتشرد في حالها، فبعد 24 عامًا من الخدمة لم تحصل على تأمين اجتماعي أو تأمين صحي ولا راتب يأمن لها حياتها.
فتاة أربعينية، ما أن تصل الوحدة، لتصغى نصائح زميلاتها بضرورة التوجه للطبيب فحالتها الصحية تسوء يومًا بعد يوم، ولكن دائمًا ما كان جوابها: "هجيب من فين مصاريف الكشف والعلاج؟!" ليلتزم الجميع الصمت، فالحالة هي نفسها تعيشها كل منهن.
وفي ليلة وضحاها تغيب رضا عن عملها ليكتشفوا بعدها أنها فارقت الحياة نتيجة جلطة ونزيف في المخ، إثر إهمالها الصحي، حسب قول الطبيب المعالج ودفنت في 8 نوفمبر الماضي، حسب سرد رفيقة دربها بالعمل وصديقتها منذ أكثر من 25 عامًا، الرائدة "جيهان.أ" لـ"القاهرة 24".
رضا ليست الأولى وليست بالأخيرة، فهي واحدة من 2500 رائدة من رائدات وزارة التضامن الاجتماعي، تتعالى صرخاتهن ولا أحد يصغى لهن، المئات منهن أفنوا أعمارهن في عمل بلا أجور عادلة أو تثبيت في العمل أو تأمين اجتماعي، فهن السبيل لحصول المواطنين على حقوقهم وحقوقهن غائبة في المنتصف، وضحايا ضيق الحال وخدمة المواطنين، لكل منهن قصتها التي تحمل في طياتها آلام وأوجاع وآمال أيضًا، وفي ظل حرص وزارة التضامن الاجتماعي، برئاسة الدكتورة نيفين القباج، على التمكين الاقتصادي للسيدات، من خلال برامجها الرئيسية، سقطت رائداتها من الحسبان.
في 2011 وبعد ثورة يناير المجيدة، نظم المئات من رائدات التضامن عددًا من الوقفات الاحتجاجية، مطالبين بأجور عادلة وتأمين اجتماعي وصحي ولكن لا أحد يهتم، ورغم مرور ثماني سنوات، منذ 2012، وتعيين رائدات وزارتي الصحة والزراعة وتقنين أوضاعهن، وزارة التضامن الاجتماعي تجاهلت تثبيت رائداتها.
على مدار 6 أشهر، بعد مضي يوم عمل طويل وعصيب منذ الثامنة صباحًا وحتى السادسة مساءً، ما إن تصل فاطمة لمنزلها لتجد والدها يبلغها بشدة احتياجه للمال، بعدما أصبحت العائل الوحيد للأسرة بعد ترك الأخير للعمل، براتب ألف جنيه شهريًا إذا حالفها الحظ حصيلة العمل 3 شهور كل سبعة أشهر مرة، لتهرب نحو غرفتها وتعافر مع آلام الانزلاق الغضروفي، الذي أصيبت به جراء عملها وآلام الشعور بقلة الحيلة ولا تجد سبيلا سوى دموعها لتنفس بها عن أوجاعها وحيرتها، هل تترك عملها بعد 16 عامًا من الخدمة دون مقابل؟
مشهد شبه متكرر يوميًا مع فاطمة شحاتة، والتي وجدت أبواب العمل موصدة بعد تخرجها لتطرق أبواب عدة، ولم تجد سوى العمل بالشئون الاجتماعية لوزارة التضامن، بالرغم من ضئالة الراتب حينها، وبلسان يتجلى فيه قلة الحيلة، تقول: "خوفت أكون عالة، عائد قليل أفضل من عدمه.. وكملت والنتيجة عمري راح على الفاضي".
وبسبب عملها لساعات طويلة، أصيبت الفتاة الثلاثينية بانزلاق غضروفي، وأخبرها طبيبها بحاجتها لتدخل جراحي بتكلفة 20 ألف جنيه، وتسرد بلكنتها الصعيدية: "اتصدمت لما سمعت الرقم، والدكتور قالي نعملها على نفقة الدولة، بلغته إني مش متأمن عليا.. ووقتها حسيت إني ماليش قيمة، عمري وصحتي راحوا على مفيش".
تعيش رائدة أسيوط، صراعًا بسبب شعورها بالندم على الاستمرار في العمل كل تلك السنوات، ولكنها في الوقت نفسه تجد ملاذها في خدمة الناس وعمل الخير، وتحمل الرائدات جزءا من ذنب ما يحدث بسبب السكوت طوال تلك الفترة، ولكن تعود وتلتمس لهن العذر، مردفة: "لو حد اتكلم أو اعترض بيمشوه".
"انتي بالنسبالهم مالكيش كيان انتي عمل تطوعي، حقي اتساوى برائدات الوزارات، على الأقل يكون ليا معاش، زي ما بآمن للناس حياتهم ومستقبلهم.. عايزة أحس أني شقيت ولقيت" تقول رائدة التضامن.
"أنا حلقة الوصل بين المواطن والحكومة.. وحقي ضايع في النص"
مابين ختم الجمهورية وكراسات المبادرات، تجلس السيدة الخمسينية، تفتش في أوراقها المبعثرة بعدسات مكبرة شاهدة على سنوات عملها الطويلة، يلتف حولها السيدات وتستقبل واحدة تلو الأخرى، يصغون جيدًا لإرشاداتها للحصول على حقوقهن في المعاشات والتوعية بالمبادرات الرئاسية.
تسرد صباح خشبة، رائدة التضامن الاجتماعي، سنوات عديدة ووعودًا كثيرا ما تلقوها دون جدوى ودون تحرك، سنة تلو الأخرى تأخذ من أعمارهن ومن فرص العيش عيشة كريمة، تتذكر في 2009 مشهدًا ما زال محفورًا بذاكرتها، سارده: "قابلنا علي مصيلحي وقت توليه التضامن، كان أول مرة يعرف بوجود الرائدات، كنا بنقبض 52 جنيها ونصف، اتصدم وقتها وقالنا: أنا أسف يا ولاد الشغالة اللي بتيجي تمسح السلم بتاخد 100 جنيه، وزودنا بعدها لـ150 جنيها وقالنا هعملكم تأمين صحي واجتماعي وهمشي في التعيين ليكم.. فرحنا وقولنا خلاص، ولكن مفيش شيء جد".
وتتابع بنبرة خافتة: "ذهبنا إلى الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، ورئيسة الجهاز وقتها قالتلنا هو لسه في رائدات أنا ثبتّ كل الرائدات ولكن وزارة التضامن لم تبلغ بالرائدات التابعة لها.. وتقدمنا بأكثر من شكوى وبتروح الشكوى للمديرية، وبتتقفل بعدها على إننا متطوعين".
تطالب خشبة بالمساواة مع رائدات وزارتي الصحة والزراعة، ومقابل عادل نظير مايقدمنه من أعمال، وتقول عنها: "شغلي اللف على البيوت وتوعية المواطنين بالمبادرات الرئاسية وكل جديد يخص التضامن، وبحث طلبات وشكاوى المواطنين، وكذلك مكالمات هاتفية قد تصل نحو 60 مكالمة مع السيدات في اليوم الواحد".
فيما يخص تثبيت رائدات كل من وزارتي الصحة والزراعة، قالت التضامن إن رائدات وزارة الصحة لعبن دورًا أثناء ثورة يناير، فقد كان هناك قوافل طبية للمصابين بالشوارع ومنذ زمن بعيد كان هناك رائدات صحيات، وما تم الاستعانة به من متطوعين أثناء الثورة تم ضمهم إلى وزارة الصحة.
"أنا حلقة الوصل بين المواطن وأي مؤسسة حكومية.. بين الناس وحقوقها، وأنا حقي في النص ضايع" تقول السيدة الخمسينية، والتي اختارت أن تمضي 24 عامًا من العمل كرائدة تضامن اجتماعي حبًا في العمل الخدمي وآملًا في التثبيت، وبلسان يتجلى فيه الأسى تحاول أن تداوي نفسها، تقول: "بفرح إني بجيب حقوق الناس بس حقي أنا فين.. كثيرًا ما سمعنا عن حقوق المرأة، ونحن من نغيث المواطنين ونخدمهم، ولكن الوزارة مش بتخدم حد".
"كعب داير في البلاد"
"ليس لنا قيمة، كأنني موظفة.. ولكن نحن لسنا بموظفات، تستمري بالعمل دون مقابل حتى الموت، لا أحد يعترف بنا كبشر ولنا حقوق.. لا معاش ولا مكافأة ولا حتى مرتب محترم" بتلك الكلمات استهلت آمال جمال حديثها مع "القاهرة 24" حول وضعها الوظيفي، والمستمرة فيه حتى الآن، آملًا أن تشهد المرحلة المقبلة قرار التثبيت أو الحصول على التأمين الاجتماعي.
تبدأ رائدة كفر الشيخ ساعات عملها منذ الثامنة والنصف صباحًا، وحتى الثانية ظهرًا، تستقبل تساؤلات وشكاوى المواطنين حول خدمات الوزارة، ولها تسجيل حضور وانصراف يوميًا، وذلك خلال 3 أيام عمل بالوحدة، ومثلها "عمل ميداني" تقوم فيها بالتنقل من قرية لأخرى ومن منزل لآخر، إما للتوعية وإما للتقصي عن الحالات المستحقة لمستحقات "تكافل وكرامة" والأسر الأولى بالرعاية.
"أنا حتى ممنوعة من معاش تكافل وكرامة، وممنوعة من إني أقدم في أي وظيفة تانية.. هل دا زمن حد يشتغل فيه ببلاش؟!"، تقول آمال متسائلة، فبعد 11 عامًا من العمل بالوزارة، وصل راتب السيدة الثلاثينية لـ350 جنيهًا، إلى أن قررت القباج زيادة المرتب لـ900 جنيه، القرار الذي بعث أملًا فيها، ولعل تحمل الأيام المقبلة في طياتها تحقيق مطالب الرائدات.
تنص شروط وأحكام برنامج "تكافل وكرامة" على ألا يكون الزوج/ الزوجة أو المسن/ العاجز، يعمل بالحكومة أو القطاع العام أو بالقطاع الخاص بأجر تأميني أكثر من 400 جنيه أو أن يتقاضى معاشا تأمينيا أو مساعدة ضمانية.
وتقول: "العادة أننا نحصل على المرتب بعد مدته المقررة -6 أشهر- ولم نحصل على الـ900 جنيه سوى على شهور 4 و5 و6 فقط، ومن بعدها ماشوفتش فلوس تاني"، وبسؤال مدير المديرية أبلغهم بعودة المرتب لـ"350 جنيها" ووقف صرف الـ900 جنيه، مرجعًا السبب إلى انتظار اعتماد وزارة المالية تلك الزيادة.
من جهتها، نفت وزارة التضامن الاجتماعي، لـ"القاهرة 24" وقف صرف الـ900 جنيه، موضحة أنه تم صرفها لمدة أربعة أشهر منذ مارس الماضي وحتى يونيو 2020، وكان عدد الرائدات حينها 1805 وليس 2390 رائدة كما هو حاليا، وطبقًا للاعتماد المدرج من وزارة المالية وتم الموافقة على مبلغ 200 جنيه زيادة من بداية سنة مالية جديدة من 1/7/2021 وحتى 30/6/ 2022م.
الخوف والقلق ثنائية تسيطران على رائدة التضامن الاجتماعي، وبصوت مرتعش تضيف: "اكتشفت أن شبابي ضاع في الشغلانة، وخايفة أضيع الباقي من عمري كالرائدات الكبار.. ولا تأمين ولا معاش وفينا ناس ظروفها تحت الصفر".
كشفت نيفين القباج، في تصريحات سابقة لها، وجود 2300 رائدة مجتمعية بقاعدة بيانات الوزارة، وزودت الوزارة الأعداد بنحو 7 آلاف أخريات مكلفات بالخدمة اجتماعية ورائدات، ليتخطى أعدادهن 12 ألف رائدة ومكلفة، لافتة إلى تخصيص موازنة سنوية لهن من قبل الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء؛ للمساعدة في نشر وعي وثقافة الأسرة.
السبيل القانوني
نورا محمد، «اسم مستعار»، لم تجد هي ورفيقاتها سوى السبيل القانوني كي يسلكوه؛ للحصول على حقهن في التثبيت والاعتراف بهن كموظفات بالوزارة، لتتجه هي و16 رائدة من رائدات التضامن الاجتماعي بمحافظة سوهاج، إلى رفع دعوة قضائية، وحتى الآن لا تزال بالمحكمة ولم يبث فيها، لافتة إلى أنهن مهددات من رؤسائهم بالعمل بسبب تلك الدعوة، قائلة: "مهددين من رؤسائنا بالمديرية، الكلام عن وضعنا ممنوع".
"أول مكافأة قبضتها كانت 7 جنيه ونص" تقول السيدة ذات الـ47 عامًا، وبعد 28 عامًا من العمل كرائدة بالتضامن الاجتماعي، جاء قرار الزيادة كطوق نجاة لها وبشرى، ولكن سرعان ما عادت الأحوال إلى ما كانت عليه، حيث تتفق مع آمال وفاطمة وتوضح أنها لم تتقاضَ الزيادة سوى 3 أشهر فقط، حتى انقطعت وعادت مرة أخرى إلى 350 جنيهًا.
"كان صعبًا كسيدة صعيدية أن نطرق على الأبواب ونكسب ثقة ربات البيوت، التي لا تقبل الحديث مع الغريب، وأكون الصديقة الصدوقة لكل ست في البلد وتعرفي كل حاجة عنهم، محدش يقدر يعمل دا إلا الرائدة.. بندخل كل عتبة، ورؤساء الوحدات بيعتمدوا علينا اعتماد كليا"، تقول نورا، مضيفة أنها في أحيان كثيرة تقضي ساعات الليل في الانتهاء من ملفات المبادرات، فصباحًا تكون ما بين الوحدة أو طرق الأبواب، وليلًا ينقضي في العمل أيضًا ولكن بالمنزل.
تبعد الوحدة عن قريتها بعض الكليومترات، وتشكو من غلاء مصاريف المواصلات، حيث تدفع في اليوم الواحد 15 جنيهًا، لتدبر من مصروف منزلها حتى وصول المكافأة، فهي ترفض وصف ذاك المبلغ بـ"المرتب"، وعند تأخره كالعادة تلجأة للسلفة من الأصدقاء والأحباب وما أن تصل المكافأة في يدها بعد طول انتظار تسدد ما استلفه، مردفة: "مابلحقش أفرح بيه.. بسدد المبلغ اللي عليا ولو اتبقى معايا فلوس ماتكملش شهر مواصلات بس وأرجع أستلف من تاني".
"هناك خطة تدريب دقيقة ومحددة من قبل الوزارة خاصة بالرائدات بصفة مستمرة، بالإضافة إلى أى عمل يتم تكليفهن به ويتم إنجازه، يكون وفقًا لخطة معينة ويتم تقاضي مبالغ عليه ولكن ليست شهرية بل طبقا لمدى إنجازها للمطلوب منها بجانب مكافأة بدل الملابس" كما قالت التضامن الاجتماعي لـ"القاهرة 24"، عن وضع الرائدات الريفيات في أجندة الوزارة.