حرب الاستنزاف.. فصل من رواية "رجال مروا من هنا" لمحمد أبو طالب
( 1 )
ضل بهم الطريق وتقطعت بهم السبل ، وتاهوا فى صحراء جرداء ( لا زرع فيها ولا ماء ) .. فلم يستطيعوا الوصل إلى نقطة المليل الحصينة المكلفون بالتمركز فيها بأقصى سرعة .. قبل أن تصل إليها قوات العدو الصهيونى .. للسيطره على طريق المليل ( وهو طريق موازى لساحل البحر الأحمر بمدينة دهب جنوب سيناء)، وكانت طائراتهم قد بدءت تحلق فى سماء المنطقه، وتم إنزال قواتهم الخاصة بنجاح ، والسيطرة على المنطقه ككل ؛ولكنهم هربوا منهم داخل الجبال والمرتفعات فى صحراء سيناء حتى وصلوا إلى وادى قنى ( وهى منطقة جبال ومرتفعات تتخللها طرق ومنحنيات وعرة ومتعرجة).
ونجحوا فى الدخول فى أحد المغارات الجبلية بعد تطهيرها مما بها من ( ثعابين وأفاعى وحيات سامة قاتلة ) .. للإختباء فيها من قوات العدو ، وإنتظار ما سوف تسفر عنه الأحداث .
* * *
وقد بزغ الفجر بنوره المشع فأضاء المكان ، وبدأت تختفى تدريجياً نجمة الصباح حتى تلاشت وإختفت عن الأنظار وهم فى حيرة من أمرهم ، وقد قارب الماء والغذاء معهم على النفاذ ، ولكنهم كانوا على يقين تام بأن قادتهم لن يتركوهم ، وأن هناك من سيأتى ليأخذهم فى أى وقت ، وفى أى مكان .
* * *
وكانت أنباء سيطرة العدو على المنطقه ككل ، وحصاره لهم قد وصلت إلى إدارة العمليات التى رأت أنه لا حل لذلك سوى اللجوء للقوات الجوية ، ولكن طائراتنا إمكانياتها ضعيفة لاتقدر على الذهاب والعودة مرة واحدة دون التموين فى الجو ، وهذا صعب جداّ بل مستحيل ، كما أننا لا يوجد لدينا غطاء جوى فى هذه المنطقه ، ومعظم طائراتنا قد دمرت على الأرض منذ نكسة الخامس من يونيو لعام ألف وتسعمائة وسبعة وستون .. لذلك ليس لدينا إلا بدو سيناء الوطنيين الذين يحاربون معنا على الجبهة المدنية والعسكرية .. تم إبلاغهم على الفور ، وإنتشروا فى المنطقة ككل .. يرعون الغنم والماعز .. كستار للبحث عن الجنود المفقودين بمساعدة الدليل ( وهو أحد الرجال الذين على دراية كبيرة بتضاريس ومنحنيات هذه الطبيعة الجبلية الصحراوية الوعرة ) .
* * *
تم العثور عليهم عن طريق وقع أقدامهم على رمال الصحراء .. حيث كان الجو ساكناً فى هذه الليلة .. فلم تمر أى عواصف تضيع معها معالم الطريق .
تم إسعافهم بطريقة بدائية بطيئة .. أتت نتائجها بعد فترة طويلة .. فى خيمة ( الشيخ حجاب الغنام ) شيخ قبيلة الغنام ( وهى أحد قبائل بدو سيناء ) وقد إستضافهم ، وأكرمهم ، وأحسن نزلهم ؛ وقد تم نقلهم إلى قرية العسلة جنوب دهب ( وهى منطقة تشتهر بالحياة البدوية البسيطة ) .. ثم تم نقلهم إلى البحر الأحمر .. فمروا بخليج قورة ، وخليج غزالة ( وهما محميتان طبيعتان خلابتان ) .. كما رأوا عن بعد جزيرة كورال وقلعتها التاريخية التى تعود للحملات الصليبية ( وهى ثمانى حملات على العالم الإسلامى على مدار ثلاثة قرون (الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر الميلادى ) رفعوا من الصليب شعاراً لهم لتحرير بيت المقدس كهدف دينى ، وكذلك لمواجهة التوسع الإسلامى وإحتلال أراضية كهدف توسعى بتوجيه من رجال الدين وطبقة النبلاء المسيطرين على الحكم فى أوربا فى ذلك الوقت ) ، وقد نزلوا بهذه الجزيرة ، وبنوا هذه القلعة العريقة التى أصبحت شاهداً على هذه الحقبة التاريخية القديمة .
* * *
ركب ( زينهم وعرفه ومراد ومجاهد ) المراكب الشراعية الكبيرة (حيث أن هذه المنطقة مشهورة بركوب الأمواج والمراكب الشراعية لسرعة الرياح بها .. لأن الجبال تحيط بها من جهات كثيرة .. فتحدث أماكن ضغط منخفض وأخرى مرتفع .. مما يساعد على سرعة حركة الرياح ) .. حتى وصلوا إلى القوات المصرية غرب القناة .
( 2 )
عادوا إلى كتيبتهم فى الأول من أكتوبر لعام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعون فى حالة يرثى لها .. فإستقبهم زملاءهم إستقبال الأبطال ، ولكن هالهم ما وجدوه من أحداث ومواقف أثارت فى نفوسهم الكثير من الشجن والألم والدموع ، وعصفت برءوسهم الكثير من التساءولات :
ما هذا الذى يحدث ؟ ! .. إنها أمور عجيبة وغريبة .. كيف نكون على شفا حرب ضروس ، ويطالبوننا بأن نتسلى ، ونمص القصب ، ونلعب السيجة على شاطىء القناة ؟ !
هل هم قد باعوا القضية ... ؟! .. أم تملكتهم روح اليأس والإنهزامية ، وأصبحوا خيال مأته لا تخيف حتى الطيور المطمئنة المسالمة .. أين مبادىء وقيم الجندية وشرف العسكرية ؟!
والواجب العسكري يحتم علينا أن نطيع أوامرهم دون جدال أو نقاش !
وكيف تفتح أبواب الأجازات على مصراعيها ، ويدعون الجنود إلى الإشتراك فى رحلات الحج والعمرة هذا العام؟! .. تكاد رأسى أن تنفجر .. ماذا سيقول عنا أعدائنا ، وهم يرون ذلك بأم أعينهم .. سيقولون إننا أشباه رجال ، وقد يغريهم ذلك فيغيرون علينا ، ويستولون على باقى أرضنا .. تكاد رءوسنا أن تنفجر من هول ما رأيناه .. حاولوا أن يوصلوا أصواتهم وإنطباعاتهم وملاحظاتهم هذه إلى قادتهم دون جدوى .
وكما قال الشاعر الكبير ( عمرو بن معد يكرب ) :
" لقد أسمعت لو ناديت حياً ، ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نارً نفخت بها أضاءت ، ولكن أنت تنفخ فى الرماد "
* * *
نزل زينهم وزملاءه فى أجازة سريعة ( ثمانية وأربعون ساعة فقط)، وتركوا زملاءهم يلهون ويلعبون على الشاطىء الغربى للقناة فى حالة من عدم الرضى والقبول لكل ما يحدث ، ولكن لا أحد يعرف ما تخبئه له الأيام ، والحرب خدعة ، وهؤلاء القادة يرون الصورة كاملة ، ويضعون الخطة الشاملة .. أما نحن فنرى الصورة من وجهة نظرنا فقط ، وفى مكاننا فقط ، ومن خلال خطة عملنا فقط .
( 3 )
عاد ( زينهم أبوالمعاطى ) إلى قريتة فى طنطا بوسط الدلتا، وذهب لزيارة خطيبتة ( ناهد العباسى ) .. فوجدها قد تزوجت فى أحد القرى المجاورة لهم ، وإستولى أهلها على الشبكة والمهر والهدايا التى قدمها لها .. فذهب إلى منزلهم ، وطرق الباب بقوة .. فأبوا أن يفتحوا له ، وطالبه الجيران بالعودة من حيث أتى .. فلا فائدة من كل ما يفعله وقد إنتهى كل شىء ، ولكنه صمم على الإنتقام منهم ، وكسر الباب ، وإنهال على أبيها وأمها ضرباً ، وكسر وحطم كل ما بالمنزل من أثاث وأجهزة ومتعلقات.
تجمع الجيران حوله ، وجاء عمدة القرية والغفر وقبضوا عليه ، وتم نقله إلى مركز الشرطة ، وترحيله إلى كتيبته مرة أخرى .. بينما نقلت سيارة الإسعاف ( عبده العباسى ) وزوجته ( جليلة ) إلى المستشفى فى حالة خطيرة .
* * *
أما ( مراد صادق حليم ) فقد عاد إلى منزله بحى العباسية بوسط القاهرة فوجد أبيه وأمه وشقيقه الأكبر قد ماتوا فى حادث سيارة مروع .. بينما أصيبت شقيقته الصغرى ( ماريان ) بصدمة نفسية وعصبية دخلت على أثرها مستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية .. خرجت منها سريعاً بمساعدة الأهل والأقارب ، وإحتضانهم لها ، وتكاتفهم حولها ، ولكنها إختارت حياة الرهبنة، وذهبت إلى دير وادى النطرون .. فالحياة بدون الأهل والأقارب والأصدقاء والأحباب لا معنى لها ، ولا روح فيها .. كدواء مر علقم تتجرعه كل يوم كى تستمر على قيد الحياة .. قلب بلا إحساس .. عقل بلا تفكير .. جسد بلا روح .
* * *
أما ( عرفه شوقى الديب ) فذهب إلى قريته فى الأقصر بأقصى الصعيد .. فوجد أبيه مريضاً مرضاً شديداً ، ويصارع الموت ، وأخبرهم الطبيب بأنها غيبوبة كبد كبيرة ، وقد لا ينجوا منها ، وقد إنتفخت بطنه وخارت قواه الجسمانية ، وأصبح لا يقدر على مبارحة الفراش ، وكأنه فى النزع الأخير يصارع الموت ، ولكن مازالت قواه العقلية متقدة .. ثائرة .. فأصر على أن يتم زواج (عرفه وحسناء ) بأقصى سرعة قبل الرحيل .. فأتوا بالأهل والأقارب ، وتم له ما أراد ، وكتب المأذون عقد القران ، ووقع (شوقى ) على العقد .. ثم سقط القلم من يده ، وفارق الحياة .
تم دفنه فى نفس اليوم فى جنازة كبيرة ، وودع ( عرفه ) أهله ، وزوجته التى لم يدخل بها بعد فى نفس الليلة ، وخرج مسافراً إلى كتيبته فجراً .. مر على الحقول فرأى الندى يتساقط على الزرع كدموعه المنهمرة على والده وحاله وحال بلده ، ومر على قبر والده .. فقرأ له الفاتحة، ودعى له بالرحمة والمغفرة ؛ثم ركب القطار الذى إنطلق به مسرعاً ، وهو يرى من شباك القطار ما حدث له فى هذه الأجازة السريعة يمر أمامه كدهر كامل على خلفية الزرع الذى يرفرف فى الهواء الطلق كرايات النصر ، وماء نهر النيل الذى يتدافع فى ثورة عارمة تقتلع كل من فى طريقها .
* * *
أما ( مجاهد حسنين شمس الدين ) فذهب إلى قريته فى المنيا بوسط الصعيد ، وحضر مراسم الصلح مع أحد العائلات التى بينهما ثأر بائت يرجع لعشرات السنين ، ولكن الصلح فشل وضاعت جهودهم سدىً .. بسبب تدخلات باقى العائلات الأخرى فى القرية التى تعتبر الصلح بينهما خطراً كبيراً عليهم جميعاً ، وأصبح صراع عائلات لا ينتهى .. حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً ، وفى هذه الحالة الجميع فى مرمى الهدف .. كانوا يضعون أملاً كبيراً على ذلك ، ولكن حسبهم أنهم لم يدخروا جهداً فى ذلك ، وقدموا كل ما فى وسعهم لإنجاحه ، ولكنها صراعات قوى وتوازنات وأشياء أخرى .. تتوارثها الأجيال على مر الزمان ؛ تركهم فى صراعهم المستمر إلى مالا نهاية .. صراع يإخذ فى طريقه الأخضر واليابس دون رحمة أو هوادة ، وركب القطار عائداً إلى كتيبته وهو فى حالة من الحزن والإنكسار .
( 4 )
عادوا إلى كتيبتهم كل منهما يحمل أحلاماً مؤجلة ، وأحزاناً عميقة لا يمحوها إلا الزمن ، ولكنهم يملكون تصميماً قوياً ، وعزيمة صلبة على البذل والعطاء والتضحية والفداء من أجل تحقيق النصر .. إنها روح أكتوبر التى سرت بين الجنود والشعب كله .
كان ذلك اليوم هو الثالث من أكتوبر ، وكانت أخبار قد سرت فى الكتيبة عن الإستعداد لعمل مناورة كبرى ، ولكن هذا شيء والواقع شىء أخر .. فقد وجدوا الكتيبة على نفس الحال الذى تركوها عليه .
* * *
إجتمع بهم قائد الكتيبة اللواء عبدالرازق العشى ومساعديه ، وشرح لهم خطورة الموقف الراهن ، وأن ما يقومون به الأن هو جزء من خطة الحرب الشاملة ، وعملية تمويه كبرى ، وخداع إستراتيجى للعدو الصهيونى .
وسوف نستعد فى الخفاء لعمل مناورة كبرى فى أقرب وقت ممكن ؛كما بدأ مع مساعديه فى توضيح مهمة ودور كل جندى بالكتيبة فى حالة العبور على خريطة كبيرة لشبه جزيرة سيناء ، وكانت المفاجأة الكبرى أن ( زينهم وعرفه ومجاهد ومراد ) سوف يكون عليهم تحرير نقطة المليل الحصينة التى فشلوا فى الوصول إليها والسيطرة عليها من قبل !
فسأله زينهم فى حيرة شديدة :
ـــ لماذا نحن بالذات ، وقد فشلنا فى ذلك من قبل ؟ !
ـــ لأنكم الأكثر دراية وخبرة بالمنطقة وتضاريسها ودروبها ومسالكها .
فقال مراد :
ـــ وهل هذا يكفى ؟ !
ـــ أنتم كان لكم شرف المحاولة.
فقال عرفه :
ـــ ولكن الفشل ترك فينا أثاراً سلبية وعكسية مازالت تسيطر علينا حتى الأن .
ـــ الفشل أول طريق النجاح ، وأنا مازلت أراهن عليكم .. فأنتم صورة مصغرة لجنودنا الأبطال البواسل الذين أخذوا على حين غرة .. دون إستعداد مسبق (بدنى ونفسى ومعنوى ) ، وعتاد تقنى حديث ومتطور ( فى كافة الأفرع ، وعلى كل المستويات ) ، وتكافؤ فى كل شىء بين الطرفين ، وحملوا عار النكسة والهزيمة فى الخامس من يونيو لعام ألف وتسعمائة وسبعة وستون .
فقال مجاهد :
ـــ ولكن دخولنا المعركة بنفس الأسلوب والإمكانيات سوف يكون فى غير صالحنا على الإطلاق .
ـــ نحن ندرك ذلك جيداً ، وهناك تغير فى الرؤى والإسلوب ، وتطور فى العتاد والإمكانيات .. الوقت ليس فى صالحنا وسوف نبدء من الأن فى التدريب القوى والممنهج ولعدد ساعات أكبر .. حتى نصل لأعلى معدلات لياقة بدنيه وقتاليه ترضينا جميعاً .
* * *
بدءوا فى التدريب البدنى الشاق ، وتسلق الجبال .. كما تدربوا على صواريخ الأر بى جى ( المحمولةعلى الكتف، والمضادة للدبابات والمدرعات والطائرات ) ، وأصبحوا جاهزين لأى مهمة قتالية ، وقادرين على الدخول فى أى معارك حربية وعلى أعلى المستويات .
* * *
ولكن هذا حدث معهم كثيراً ، وتأخر ميعاد الحرب أكثر من مرة جعل نفسيتهم تهبط إلى الحضيض .
فهل يتكرر ذلك معهم هذه المرة ؟! .. هذا ما دار بين الجنود وقادتهم الذين كثيراً ما صنعوا لهم الحجج والذرائع الواهية .. لكن هذه المرة الروح عالية، والإستعدادات أقوى ، وكل الشواهد ، والأجواء المحيطة تنذر بحرب ضروس .. إذا هى الحرب التى إنتظرناها طويلاً لتحرير الأرض وعودة الروح والعبور والانطلاق.