غدًا.. قصة قصيرة للكاتبة مرفت البربري
في مرآة مصقولة من استبرق، تسّاقط عليها ورود وجنتي، ويراقصها عودي الغض ربيعي السنوات، وقفت أتأنق وأضبط هندامي، ملابسي التي أرتديها الآن، طفرة من طفرات "الموضة"، أبدًا ما كانت بنات جيلي يحلمن بها، حلم لم يراودنا في مناماتنا التي كانت تذهب بنا إلى عوالم أبعد ما تكون عن عالمنا الواقعي، بها من لمسات الجمال، ما لا عين من عيونهن رأت ولا آذانهن سمعت بأسماء مصمميها أو حتى أسماء القطع التي أرتديها، ولا خطر على قلوبهن وقلبي أنها ستكون في يوم من الأيام حقيقة، رقيقة لا تشف ولا تصف، تضفي الدفء في ليالي الشتاء، وتمنح في الصيف جسدي لمسة باردة ترطب مساماته، صففت شعري بمحرد لمسه لآلة لم أعرف لها اسما، لم تحتَج بشرتي لأية مساحيق تجميل، فهي ندية غضة متوردة دائمًا، ثم رحت أرسل لتلك الأنيقة التي تقف أمامي في المرآة والتي فوجئت بعودتها بضعة قبلات، جاء ابني يطمئن أنني أنهيت هندامي، ياله من رجل مفتول العضلات، وسيم القسمات، لو لم يكن ابني لتمنيت أن يكون فارس أحلامي.
فهو الآن يكبرني في العمر بعشر سنوات وهو نفس الفارق الذي كان بيني وبين أبيه، عندما رأيته وتمنيت أن يكون لي،
تشبثت بِغْزلٍ من نور الحب الذي أرسلته عيناه فلامست شغافي، طوق خدرها ملامحي ولف حنوه حول كياني فأسر كُلي، كان عندما ينظر إليّ أتحول إلى عابدة في محراب سطوته، تعلمت طقوس حبه، فكان قلبه كعبتي التي أطوف حولها سِنيّ زواجنا، محرِمة أنا منذ تزوجته، فلم أتعطر بالدنيا ونسائمها، حجبت نفسي عن الكون إلاه، أوامره كانت هي فروضي، عناقه كان وضوئي، سكن وريدي، واستوطن عشقه الشريان، وليدي الآن الأكثر شبها به في قسماته من بين اخوته، الذين لا أعلم أين هم الآن، لم أجد في ذاكرتي عنهم الكثير إلا ذكرى ولادتهم، ولكن كل ذكرياتي هي التي معه وأيامي في حب أبيه، أشعر بثقوب في ذاكرتي فارغة مما كانت تحتويه
وقف خلفي وطوقني وأخذ ينهال على وجنتيَّ بالقبل.
- هل انتهيتِ مليكتي واستعددتِ؟
- ها أنا مستعدة؟
- يالكِ من فتاة جذابة.. خطيبتي ستغار من جمالك فالكل سيلتفت لك أنت.
- ليتني أستطيع ألا أكون بهذا الجمال كي لا تغار.. ولكن الأمر ليس بيدي.
انفجرنا ضاحكيَن..
لم أكن التقيت بخطيبته وأهلها من قبل، خطبها وليدي قبل حضوري بوقت لا أعرف مداه.
عند التقائي بها، غمرت قلبي فرحة كانت من المستحيلات، وقفت بينهما أحتضنهما بذراعيَّ وتبكي عينيَّ فرحًا، كم أنا ممتنة لك بُنيَّ أن جعلتني أذوق هذه الفرحة، وأعايش تلك الحالة، عندما عدنا للبيت، عاودني إحساسي بالثقوب، فرحت أفتش عن شيء يُسري عني، فتحت جهاز ابني اللوحي (التابلت) وقلَّبت بين الملفات فوجدت ما راعني، إنه وعي زوجي أطلق عليه ابني اسم الوعي الكامل، فتحت الملف وطوفت بين ذكريات زوجي، لم أجد مما كنت أظنه ذكرياتي شيئًا، لم أجد إلا ذكرًا اقترن بأنثى فأنجبا ذرية، غليظي القلوب فلم يكن بهم من حنون غير وليدي، كنت في وعيه، مجرد أنثى يريح جسده بأوجاعها، ويملأ كأس نشوته بدموعها، حتى جف زهو غصني، وانتابت جسدي المُقدد أمطار نزوات جفافه ما تكسرَ منها اعوجاج ضلعي، فألقى بي مع المرض في محرقة التجاهل، حبيسة غرفة ترقد البرودة في زواياها.
لم يتركني وليدي وغادرني كل إخوته، ورغم شبهه بوالده ولكنه كان الأبعد شبها في أخَلاقه، فهو أرأف وأحن، ربما لهذا السبب فضل أن يعيش باقي عمري معي أنا ورفض أن يحيا مع أبيه، ياله من بار أعادني للحياة كي أفرح بعرسه.
جاءته فكرة استعادتي عندما وجد كنزه كما أسماه، فقبل أن يتوفى والده استنسخ وعيه واستخلص منه ذكرياتي معه، ومن ثَم خلّق وعيِا يخصني، واستعاد تفاصيل شبابي في جسد لا يهزمه مرض ولا ينتقص من جماله مرور السنين.
وقف بجانبي، ومحا بيده الحنون دمعة عانقت وجنتي، وقال :
هيا إلى النوم يا مليكتي فغدًا سنذهب معا لزيارة المقبرة، فغدًا هو ذكرى وفاتك.
وفصل البطارية.. كي أنسى ما شاهدت.