تزامنًا مع لقاء الأهلي وبايرن.. كيف تناولت أعمال نجيب محفوظ كرة القدم؟
ينتظر عشاق الكرة المصرية بشغف مباراة كرة القدم التي تقام بين الأهلي وبايرن ميونخ في تمام الساعة الثامنة مساء، وتكهنات المصريين متضاربة ومتفاوتة بين المبالغة من قبل عشاق الأهلي بفوز فريقهم الساحق على بايرن ميونيخ، وبين التوازن في توقع نتيجة معقولة للمباراة ربما كان أفضلها التعادل (صفر صفر) للفريقين.
هذه الأمور لم تكن لتغيب عن الكتاب في أعمالهم وخاصة الأعمال السردية، حيث عالجت الأعمال الواقعية على وجه الخصوص، ظاهرة الكرة المصرية ومزاج المصريين في التعامل معها، وبمناسبة مباراة اليوم ننشر فصلًا من كتاب "كرة القدم في الرواية المصرية" للكاتب الصحفي والروائي والناقد مصطفى بيومي يرصد فيه معالجة أدب نجيب محفوظ لهذا الأمر.. وجاء الفصل كما يلي:
في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة "الهلال" عن نجيب محفوظ، فبراير 1970، يكشف الدكتور أدهم رجب، صديق عمر الكاتب الكبير، عن موهبة نجيب الكروية إبان سنوات الطفولة وبواكير الشباب: "كان نجيب محفوظ لاعب كرة من طراز نادر، في أيام الصبا في العباسية. كان محاورًا ومناورًا كرويًا، لو استمر لنافس على الأرجح حسين حجازي والتتش ومن بعدهما عبدالكريم صقر، ثم الضظوي".
يشهد الدكتور أدهم للتاريخ أنه لم ير في حياته، وهو من عشاق كرة القدم والمولعين بمتابعة لاعبيها، من يجاري نجيب محفوظ في سرعته الخارقة: "كان أشبه بالصاروخ المنطلق، وكان هذا يلائم الكرة في عصر صبانا، ففي شبابنا الباكر كان عقل اللاعب في قدميه، وكان اللاعب القدير هو اللاعب الفرد الذي ينطلق بالكرة كالسهم نحو الهدف لا يلوي على شيء".
بما هو معهود فيه من المرح وخفة الظل، يعلق نجيب على شهادة صديقه، مشيرًا إلى المستقبل الكروي المرموق الذي أضاعه في سبيل الأدب!.
ينعكس اهتمام نجيب بالكرة على إبداعه الأدبي الثري، وتقدم رواياته وقصصه القصيرة شهادة مهمة تكشف عن المكانة التي تحتلها كرة القدم في الحياة المصرية، خلال مراحل تاريخية مختلفة، وعبر تجليات ذات مستويات متعددة.
**
في روايته الذاتية "المرايا"، يتجلى اهتمام نجيب محفوظ بكرة القدم وتأثيرها في طفولة ومراهقة الراوي – الروائي. بداية العلاقة مع اللعبة الشعبية عند انتقال الأسرة من حي الحسين للسكنى في العباسية، ومن الأسئلة المبكرة التي يطرحها الأطفال من الجيران الجدد، الذين يتحولون سريعًا إلى أصدقاء مقربين:
"- تلعب كرة!
- كلا.
- تعلمها".
إتقان لعب الكرة ضروري لتواصل الوافد الجديد مع أطفال الحي، وعندما يندمج الراوي معهم ويصادقهم تتحول الكرة إلى جزء أصيل من مفردات اللعب والنقاش. في سياق الحديث عن الشرير العدواني خليل زكي، تظهر الإشارة إلى طبيعة الخلافات والمشاجرات الطفولية الشائعة: "حتى اليوم في جبيني أثر من ضربة قبقابه. اختلف رأيانا في حسين حجازي ومحمود مختار أيهما أمهر في اللعب. فقلت إنه حسين حجازي وقال إنه محمود مختار ثم كانت ضربة القبقاب فسال الدم على وجهي وجلبابي".
العراك العنيف بسبب تباين الآراء حول الكرة ونجومها ليس استثنائيًا خلال المرحلة التاريخية، بل إنه يمتد إلى مشاجرات بين أطفال الأحياء في أعقاب المباريات التي تجمعهم، وخليل زكي نفسه هو من يقود أصدقاءه في مثل هذه المعارك: "كان قائدنا في المعارك التي تنشب بيننا وبين غلمان الأحياء القريبة خاصة في أعقاب مباريات الكرة".
الإجماع على حب كرة القدم ولعبها بمثابة القاعدة، وقلة قليلة هي التي تبتعد عن المشاركة فيُضرب بها المثل، مثل كل استثناء نادر لا يُقاس عليه. رضا حمادة صديق فريد ناضج جدير بالاهتمام، ولا شيء عنده يعلو على الأحاديث الوطنية والسياسية: "كان يتكلم عن سعد زغلول أكثر مما يتكلم عن حسين حجازي أو شارلي شابلن أو المصارع عبدالحليم المصري"!.
بعد فترة قصيرة من الانتقال إلى العباسية، تُتاح للراوي الصغير فرصة خوض تجربة مثيرة أقرب إلى المغامرة الخارقة، والفضل لصديقه جعفر خليل الذي يدعوه لمشاهدة مباراة كرة قدم بالنادي الأهلي: "ولما سألته عن التكاليف اجاب بكل بساطة:
- ولا مليم.
ذهبنا بجلابيبنا وصنادلنا مشيًا على الأقدام مخترقين شوارع الظاهر، الفجالة، ميدان المحطة، عباس، ميدان الخديو إسماعيل، جسر قصر النيل، حتى بلغنا النادي، وإذا بالمجموعة تتسلق شجرة كبيرة وتتخذ أماكنها فوق الغصون فلا يسعني إلا أن أفعل مثلهم.
في ذلك اليوم شاهدت مباراة كرة قدم لأول مرة في حياتي، وعرفت لاعبين لم يُمح أثرهم من نفسي حتى اليوم مثل حسين حجازي ومرعي، ورأيت الإنجليز وهم يلعبون وكنت أعتقد أنهم يقتلون فقط، وهالني أن أرى علي الحسني وهو يكاتفهم فيطرحهم أرضًا فلا يعقب ذلك معركة دامية. سررت وسعدت، وبدأت أعشق هواية جديدة، وآمنت بأنه يمكن الانتصار على الإنجليز ولو في ملعب النادي الأهلي، ولكننا تأخرنا في العودة إلى بيوتنا وتعرضت هناك إلى حساب شديد".
رحلة طويلة شاقة من العباسية إلى مقر النادي الأهلي في الجزيرة، ومشاهدة مجانية غير تقليدية، لكن المتعة تمحو التعب والمشقة والمخاطرة، وتلعب المغامرة دورًا مهمًا في إعادة تشكيل الشخصية عبر الرؤى الجديدة المترتبة على المتابعة. للمباراة الأولى وقع مؤثر لا يمكن نسيانه، ذلك أنها تقترن بالتعرف عن قرب على أفذاذ لاعبي المرحلة التاريخية، حجازي ومرعي والحسني، وتزيل سيطرة الصورة النمطية المرعبة عن الإنجليز محترفي القتل، فهم يلعبون أيضًا ويتعرضون للهزيمة. الانتصار عليهم، في ميدان كرة القدم على الأقل، ليس مستحيلاً، والهواية الجديدة تختلط بالمعطيات الوطنية والسياسية، وتبرر الاندفاع في التعلق بها وممارستها، دون نظر إلى العقاب الشديد المستحق الذي يطول الراوي لتأخره في العودة إلى البيت.
سرعان ما ينخرط في عضوية الفريق الذي يمثل الحي ويضم خليطًا من اللاعبين متفاوتي المستوى والطموح: "وانضممت إلى ناديهم "قلب الأسد" واشتركت في اللعب الذي كان يجري وسط غابة التين الشوكي، وقُدر لي أن أنافس في المهارة جعفر خليل نفسه بل وعيد منصور الذي توهم في ذلك الوقت أنه يعد نفسه لاحتراف اللعبة".
مهارة الراوي تؤهله للاستمرار في ممارسة هوايته المحببة، لكنه يتحول من اللعب إلى التشجيع والمشاهدة، ففي سياق حديثه عن الجار الانطوائي المتعجرف عدلي بركات، يشير إلى أن بداية التعارف بينهما كانت أثناء مشاهدة "مباراة كرة حامية بين النادي الأهلي والمختلط".
بعد الالتحاق بالجامعة، ينتقل من الملعب إلى المدرجات، لكنه يمارس اللعبة في مرحلة الدراسة الثانوية.
**
في "المرايا"، يتوقف الراوي أمام زميل دراسته في المدرسة الثانوية بدر الزيادي، البدين خفيف الروح عاشق الطعام واللعب والبنات والوطن. شخصية ثرية حافلة بالحيوية، ذات حضور وجاذبية طاغية، والملمح الأهم فيها هو تفوقه اللافت في كرة القدم: "كان قلب الهجوم في فريق المدرسة. ورغم بدانته اشتهر بالسرعة وخفة الحركة غير أن اندفاعه المتناقض مع وزنه كان يثير في الملعب عاصفة من الضحك. وعُرف بقدرته الخارقة في المحاورة والمداورة، والسيطرة على الكرة كأنما يشدها إلى مجال قدميه بقوة مغناطيسية، والمكر الأريب الذي يفقد أعداءه توازنهم ويطرحهم أرضًا، كما امتاز بقوة ضرباته للكرة.
وكان يعد نفسه للعب في النوادي ويحلم بالاشتراك في الأوليمبيات العالمية. وكان مستر سمبسون المدرب العام بوزارة المعارف يعجب به فنصحه في ختام إحدى المباريات العامة بين المدارس بتخفيف وزنه فكانت استجابته للنصيحة أن التهم – في حفل الشاي الذي أعقب المباراة- طورطة كاملة وحده مع عديد من السندوتشات والفطائر!".
مهاجم سريع خفيف الحركة ذو مهارة وقدرة فائقة في المحاورة، كما يتسم بقوة التسديد على المرمى، ومثل هذا المستوى الرفيع من الأداء يؤهله للمزيد من الصعود والتقدم. البدانة مشكلة لا ينشغل بها بدر، متوافقًا بذلك الإهمال مع طبيعة شخصيته المرحة الأقرب في عفويتها وبساطتها إلى اللامبالاة.
من ناحية أخرى، لا يحول حبه للكرة دون الاهتمام بالهم الوطني والمشاركة في المظاهرات الاحتجاجية ضد الاحتلال والاستبداد، وفي إحداها يتلقى ضربة تصيب مؤخر رأسه ويستشهد. بموته تنتهي رحلته القصيرة مع الحياة وكرة القدم، ولا شيء يبقى منه إلا الصورة التذكارية التي يحتفظ بها الراوي لفريق الكرة: "وهو يتوسط الفريق، الكرة بين قدميه، يطالع الكاميرا بنظرة مرحة مترعة بالثقة بالنفس".
لا تقتصر الحياة على كرة القدم وحدها بطبيعة الحال، فهي ذات جوانب متعددة متشابكة، وتجمع الأشرار والطيبين في نسق واحد. إذا كان بدر الزيادي مرحًا خفيف الروح يتسلح بالبساطة والثقة، فإن زميله عيد منصور على النقيض تمامًا: "ويوم قُتل زميلنا بدر الزيادي في الإضراب لم يكن يخفي ارتياحه لخلو الميدان من منافسه في رئاسة فريق الكرة"!.
ألا يتحتم القول إذن إن ساحة كرة القدم ليست إلا صورة مصغرة مكثفة من ملعب الحياة؟!.
سابا رمزي، العاشق المتطرف ذو النهاية المأسوية، من نجوم فريق الكرة بالمدرسة: "كان الجناح الأيمن لبدر الزيادي وكان تبادل الكرة بينهما يشكل خطرًا على أي فريق نلاعبه. لذلك اكتسب في المدرسة شهرة واحترامًا رغم قصر قامته".
لاعبو الكرة هم الأشهر في المدرسة وموضع الاحترام والتقدير، وليس أدل على رعاية الحكومة وتدعيمها للنشاط الكروي في المدارس في وجود مدرب عام أجنبي بوزارة المعارف، وتنظيم مسابقات رسمية تحظى بالمتابعة وتدفع بوفرة من الموهوبين إلى الأندية الكبرى.
**
في قصة "مفترق الطرق"، مجموعة "همس الجنون"، يستعيد جلال أفندي رغيب، مراجع الحسابات في وزارة المعارف، ذكريات المدرسة الثانوية بعد تعيين زميل الدراسة حامد باشا شامل وزيرًا. كانا يتنافسان في التفوق وصدارة الناجحين: "وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان. وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع، فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه، حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة".
يتسلح حامد بأصوله الطبقية فيواصل رحلة التعليم ويرتقي في المناصب الرفيعة وصولاً إلى تقلد الوزارة، ويقبع جلال في القاع بفعل الفقر والضائقة المالية لأسرته، لكن كرة القدم لا تخضع للوساطة والمحسوبية، والبقاء فيها للأصلح والأفضل والأكثر مهارة وموهبة. يستحوذ جلال على مركز قلب الدفاع في فريق المدرسة لأنه الأحق به، لكن الحياة خارج الملعب لا تتسم بمثل هذه العدالة، وينتهي المطاف بالمتنافسين القديمين إلى موقعين مختلفين لا متسع للمقارنة بينهما.
من ناحية أخرى، تشير القصة بعفوية دالة إلى أن المدارس الثانوية المصرية، في أوائل القرن العشرين، تبدي اهتمامًا كبيرًا بكرة القدم، ويتنافس التلاميذ من مختلف الطبقات في المشاركة الإيجابية التي تمثل امتدادًا للعملية التعليمية.
في قصة "صورة قديمة"، مجموعة "دنيا الله"، يستعرض الصحفي حسين منصور صورة مدرسية قديمة، تضمه وطلبة السنة النهائية بالقسم الأدبي من الجيزة الثانوية عام 1928، تمهيدًا للقيام بتحقيق صحفي عن المصائر التي يئول إليها الزملاء القدامى سنة 1960: "وقف عند فتى كان من أبطال كرة القدم، ولقي حتفه في مباراة بين الجيزة ومدرسة أخرى، حادث لا يُنسى، وتراءى ضحيته في الصورة براق العينين معتدًا بنفسه منحرف جانب الفم في شبه ابتسامة، وهو اليوم عظام".
لا تكشف القصة عن ملابسات الحادث المأسوي الذي يودي بحياة لاعب الكرة الشاب، لكن المستخلص من الإشارة العابرة يؤكد حقيقتين متلازمتين متكاملتين: المكانة المرموقة التي يحتلها لاعبو الكرة في المدرسة الثانوية، المنافسة الساخنة المثيرة بين المدارس في مباريات ذات حشد جماهيري.
في قصة "رجل"، مجموعة "الفجر الكاذب"، يستعيد المهندس العجوز المتقاعد ذكرياته مع الجار الصحفي الذي يكتب عنه في عموده اليومي، ومن المحطات التي يتوقف عندها تفوقه الدراسي وولعه بكرة القدم: "أحرزت في لعبة الكرة نفس الدرجة من التفوق، كنت قلب الهجوم بالمدرسة الخديوية، ولعلي كنت اللاعب الوحيد الذي يحافظ على حماسه كله حتى اللحظة الأخيرة من المباريات وبصرف النظر عن النتائج، وكان مدربنا يقول لفريقنا إن اللعب أهم من النتيجة وإن عليهم أن يحافظوا على روحهم العالية حتى الختام، وقال محددًا ليكن لكم أسوة في زميلكم صفوت راجي.
فقال الأستاذ منشرحًا:
- ولكنك طويل القامة بصورة ملحوظة فهل أعتبر ذلك ميزة؟
- إنه ميزة لمن يحسن استغلاله، وقد برعت في اللعب حتى واتتني الفرصة للالتحاق بأحد النوادي المعروفة..
- وهل صرت نجمًا شعبيًا؟
- كلا، هجم عليّ خصم هجمة غير قانونية فأحدث بي عاهة في مفصل ساقي اليمين فاضطررت إلى الانقطاع عن رياضتي المحبوبة".
يتوافق أسلوب أداء صفوت راجي في اللعب مع شخصيته الجادة التي لا تعرف الاستهتار والاستهانة، ولا تقترب من الوقوف على حافة اليأٍس. يتسلح بإرادته القوية محتفظًا بحماسه وإخلاصه دون نظر إلى نتيجة المباراة وحسابات الربح والخسارة، ويكشف المدرب عن جانب مهم من فلسفة كرة القدم وأهدافها المأمولة عندما يقول إن اللعب أهم من النتيجة، ذلك أن تحقيق الفوز والتعرض للهزيمة من ثوابت كرة القدم، والبطولة في أداء الواجب كاملاً دون تقصير، والظفر بمتعة أن تلعب وتسعد وتُسعد الآخرين.
المدرسة الخديوية، ذات الشهرة والتاريخ، تملك فريقًا قويًا ومدربًا متفرغًا، وتخوض منافسات مع المدارس الأخرى، وفي هذا السياق يتأهل اللاعبون البارعون من طلبة المدارس للالتحاق بالأندية المعروفة ذات الشعبية الواسعة. الإصابة تحرم صفوت من استكمال مسيرته الكروية، وتفسد أحلامه وتنغص صفو حياته، لكن الحياة لا تنتهي بانكسار وتبخر حلم من أحلامها، ولا تتوقف طموحاتها عند كرة القدم وحدها: "خيمت عليّ الكآبة فترة طويلة حتى رمقني أبي بازدراء، وعاتبني بدلاً من أن يعزيني، وسرعان ما كرست طاقتي كلها للدراسة حتى تخرجت في الهندسة على رأس الناجحين".
الاستسلام للكوارث والمحن ليس من شيم الرياضيين والأقوياء من البشر، ومقاومة الكآبة تدفع الشاب إلى الخروج السريع من أزمته، والتفوق في دراسة الهندسة لا يقل أهمية عن النجاح في ساحة كرة القدم، فالاحتياج قائم إلى الكرة والهندسة معًا.
في "قصر الشوق"، منتصف العشرينيات، يبدي كمال عبدالجواد وأصدقاؤه اهتمامًا ملحوظًا بلعب كرة القدم ومتابعة أخبار ومنافسات أنديتها الكبرى، مع تفاوت في مستوى الأداء وتباين في الانتماء للأندية. ينتقل الحوار في حديقة سراي آل شداد من السياسة إلى الكرة، والمشترك بين الساحتين هو الحماس الزائد والاختلاف العميق على أرضية الصداقة التي لا تعني التشابه والانسجام الكامل:
"- موسم الكرة سيبدأ عما قريب..
- كان الموسم الماضي موسم الأهلي دون شريك!
- هزم المختلط بالرغم من أن فريقه يضم أبطالاً أفذاذًا.."
يتوزع الولاء بين الأهلي والمختلط، الزمالك في مرحلة تالية، واقتراب بداية الموسم الكروي يقترن بنهاية الصيف ومطلع الخريف. الأصدقاء الأربعة، كمال عبدالجواد وإسماعيل لطيف وحسين شداد وحسن سليم، يلعبون كرة القدم مع تفاوت حظوظهم في المهارة: "فكان إسماعيل أمهرهم إلى حد أنه برز بينهم كالمحترف بين الهواة، على حين كان حسين شداد أضعفهم، أما كمال وحسن فكانا بين ذلك".
قبل الانهماك في الحديث الساخن عن كرة القدم والأهلي والمختلط، كان الحوار السياسي يشهد عراكًا عنيفًا مماثلاً بين الوفدي المتطرف كمال والأرستقراطي حسن سليم، أحد شباب الأحرار الدستوريين. يمتد الاختلاف الجذري بينهما إلى الكرة، فالوفدي كمال من مشجعي المختلط المخلصين، وغريمه في الحب والسياسة والكرة من عتاة محبي الأهلي: "وقد اشتدت المناظرة بين كمال وحسن؛ ذاك يرجع هزيمة المختلط إلى سوء الحظ وهذا يردها إلى تفوق لاعبي الأهلي الجدد.. واستمر الجدل دون أن ينزل أحدهما عن رأيه. تساءل كمال: لم يجد نفسه دائمًا في الجانب المضاد للجانب الذي يقف فيه حسن سليم؟، الوفد الأحرار، المختلط الأهلي، حجازي مختار، وفي السينما يفضل شارلي شابلن فيفضل الآخر ماكس لندر!".
ليس اختلافًا كرويًا تقليديًا فحسب، بل إنه أيضًا تناحر سياسي وطبقي وثقافي في المقام الأول، ويكشف نجيب من خلال شخصية كمال، الأقرب إلى التعبير عن ملامح الكاتب الكبير، عن انحيازه إلى المختلط وأبرز لاعبيه في المرحلة التاريخية، حسين حجازي، في مواجهة الأهلي ولاعبه الأشهر محمود مختار التتش!.
في "بداية ونهاية"، التي تدور أحداثها قرب منتصف الثلاثينيات، يمثل موت الموظف متواضع المكانة كامل أفندي علي، ضربة موجعة لابنيه حسين وحسنين طالبي المرحلة الثانوية. الأزمة المادية الطاحنة بعد الوفاة المباغتة لرب العائلة، تحول دون استمرار حصول الشقيقين على المصروف الشخصي، ما يعني عجزهما عن تسديد الاشتراك الذي يتيح لهما لعب كرة القدم في نادي شبرا. تقول لهما الأم في قسوة مبررة إن المصروف "يُنفق عادة في وجوه تافهة"، وعندئذ يفكر حسنين ساخطًا دون قدرة على البوح بما يعتمل في أعماقه: "وجوه تافهة!. اشتراك نادي الكرة، السينما، الروايات، أهذه وجوه تافهة؟".
يتذمر حسنين مسكونًا بالاستياء والغضب، لكنه لا يملك إلا أن يخضع ويطيع مضطرًا، والشقيق الأكبر حسين، الأكثر اتزانًا وعقلاً، هو الذي يبادر باتخاذ الإجراء العملي الحتمي الذي لا مهرب منه. بعد نهاية أيام الحداد والعودة إلى المدرسة، يخاطب زميله رئيس فريق الكرة بالقرار:
"- أرجو أن تعفيني وأخي من الاشتراك في نادي شبرا.
ولاحت الدهشة في وجه الرئيس، وأزعجه الطلب خاصة فيما يتعلق بحسنين- جناح الفريق الأيمن- فقال معترضًا:
- لعل أمرًا ضايقكما!
فقال حسين بتأثر:
- توفي والدنا!
فوجم الرئيس مليًا، ثم عزاه برقة، وصمت لحظات ثم قال:
- ألا ترى أن هذا لا يدعو إلى حرمان النادي من عضوين بارعين مثلكما؟
فقال حسين بلهجة خاطفة:
- إن الحداد يقضي بهذا!
فقال الفتى بإشفاق:
- إن الحداد لا يتعارض مع الرياضة!
فقال حسين:
- إن ظروفنا تقضي بهذا. إني آسف!".
الحداد لا يتعارض مع الرياضة بطبيعة الحال، لكن الإعلان عن السبب الحقيقي للانقطاع ليس ممكنًا. الانزعاج الذي يبديه رئيس الفريق، يكشف بجلاء عن مهارة حسنين وتفوقه واحتياج الفريق إلى جهوده في مركز الجناح الأيمن. الحزن مشترك بين الشقيقين اللذين يحبان الكرة مع تفاوت ملحوظ في المهارة والبراعة، والفارق الجوهري بينهما يتجسد في أسلوب التفاعل مع المعطيات الجديدة التي يفرضها الفقر بلا رحمة: "قطعا فناء البيت في صمت حاملين كتبهما، ثم قال حسنين وهما يرتقيان السلم:
- عما قليل يبدأ فريق نادي شبرا في التمرين استعدادا للمباراة القادمة!.
فلاذ حسين بالصمت. وجعل يتخيل الملعب واللاعبين، فكأنه يسمع الرئيس وهو ينبئ الآخرين بانفصالهما "لظروف الأسرة الجديدة!". لا لعب ولا مسرة ولا رحمة من شكوى حسنين المتواصلة".
كلاهما محب لكرة القدم وراغب في الاستمتاع باللعب، لكن الكتمان سمة أصيلة في شخصية حسين الذي يعي أن الأزمة تفرض تقديم كثير من التنازلات، وأن السخط لا يفيد أو يغير شيئًا!.
اللعبة الشعبية منتشرة في الثلاثينيات، وتحظى بإقبال لافت من الشباب، بل إنها تمثل سلاحًا مهمًا في مسيرة حسنين العملية، ذلك أن مهارته المشهود بها تعينه في الالتحاق بالكلية الحربية. عوامل شتى تقود حسنين إلى تحقيق الحلم الذي يراوده، وبراعته في الكرة من هذه العوامل. قد لا تكون أهمها، لكنه يأبى بأنانيته ونرجسيته إلا أن يفسر الأمر على النحو الذي يشبع غروره: "ولما علم بقبوله في الكلية أبى أن يعترف لوساطة أحمد بك بالدور الخطير الأول الذي لعبته في قبوله فقال لأمه إن الفضل الأول راجع لمزاياه الجسمية وتفوقه في الرياضة"!.
الاهتمام بكرة القدم، في المدارس والأندية الصغيرة في الأحياء الشعبية، فضلاً عن الأندية الكبرى، فعل إيجابي محمود لا غبار عليه. الكرة رياضة شعبية مفيدة في بناء الشباب والاستحواذ على أوقات الفراغ للابتعاد بهم عن مسارات الانحراف والفساد، كما أن اللعبة تسلية مثيرة ممتعة لمن يشاهدونها ويتحمسون في تشجيع الأندية الشهيرة والنجوم البارزين. المشكلة الحقيقية في التطرف المرذول الذي ينحاز إلى الكرة ويهمل الجوانب الأخرى الأكثر أهمية، التي لا تكتمل خريطة الحياة الإنسانية السوية إلا بها.
بعد ثورة 23 يوليو 1952، حيث إلغاء الأحزاب السياسية وتقلص المشاركة الشعبية في صناعة القرار وهيمنة الفراغ، تتحول الكرة برعاية الدولة وإعلامها الرسمي إلى النشاط الأولى بالعناية والرعاية، وعندئذ تتحول إلى موضع الاهتمام الأول، وربما الوحيد، عند قطاع عريض يمثل الأغلبية من الشباب، وهو توجه يثير غضب الجادين الملتزمين. الصحفي العجوز المعمر عامر وجدي، في "ميرامار"، شاهد على مسيرة مصر الحافلة في القرن العشرين، لكن المطاف ينتهي به في مطلع الستينيات مهمشًا مهملاً منسيًا، بعد تراجع مكانة المثقفين والمفكرين. مع بزوغ العصر الذهبي لنجوم كرة القدم دون غيرهم، لا يملك الرجل في مواجهة طوفان التحولات العارمة إلا أن يطلق صيحته الغاضبة الساخطة: "أيها الأنذال، أيها اللوطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟!".
في الرواية نفسها ما يؤكد أن ثورة عامر الاحتجاجية لا تنبع من فراغ، فكثير من شباب الستينيات ورجالها يتسمون بالجهل السياسي والثقافي، ولا يعرفون شيئًا عن تاريخهم القريب. من هؤلاء المهندس علي بكير، الصديق المقرب لسرحان البحيري: "وقد وضح لي أن علي بكير لا يكاد يعرف الفارق بين الوفد والنادي الأهلي"!.
ليس مستغربًا إذن أن يكون الجيل الجديد من أطفال الستينيات عظيم التعلق بكرة القدم دون غيرها من الأنشطة، ووفق تعبير الصحفي الفني مصطفى المنياوي، في حواره مع صديق العمر عمر الحمزاوي، فإن ابنه عمر يمثل التوجه الجديد الغالب: "اهتمامه بالكرة يماثل اهتمامنا القديم بقلب العالم رأسًا على عقب"!.
الحديث عن خطة مدبرة من النظام الناصري لإلهاء الشعب قد لا يكون دقيقًا صحيحًا، لكن هيمنة الكرة وتصاعد شعبيتها حقيقة راسخة لا يمكن التشكيك فيها، وهو ما يتجسد في قصة "من فضلك وإحسانك"، مجموعة "رأيت فيما يرى النائم". يعبر عبدالفتاح إبراهيم الدراجي عن الاتجاه السائد بين أبناء جيله، فهو ليس متفوقًا في دراسته، ولا يهتم بالثقافة والسياسة، وتحظى كرة القدم بالصدارة في إيقاع حياته: "كان مغرمًا بكرة القدم ويلعبها بمهارة لا بأس بها، ولا يبدي أي اهتمام بالحياة العامة مثله في ذلك مثل أبيه وأمه، بل مثل شقيقتيه المهاجرتين مع زوجيهما بليبيا والبحرين. لم يرتفع في ذلك المسكن صوت لتأييد رأي أو معارضة رأي أو إعلان موقف ولا حتى كمتفرجين، فلا مشاركة وجدانية وكأنما ينتمون إلى كوكب آخر. تدور الأحاديث عادة عن المدرسة، المسلسلات التليفزيونية، الكرة، الطعام".
يتراجع الاهتمام بالحياة العامة عند الشباب والكبار، فلا انشغال بالسياسة المهلكة والثقافة المرهقة، والتركيز كله على الأشياء التي لا تمثل خطرًا، وفي هذا السياق لا يخفي عبدالفتاح نفسه دهشته من سيطرة التفكير في سر الكون ومعنى الوجود بعد الأزمة العاطفية التي يعانيها: "أليس مما يفزع أن ترتفع فجأة من كرة القدم إلى قلب الكون دفعة واحدة؟!".
**
في قصة "صباح الورد"، يتميز عزت قيسون عن أقرانه برؤاه غير التقليدية التي تتجاوز مفاهيمهم الشائعة: "الرياضة.. الفن.. الثقافة.. العمل.. هذا هو مستقبل وطننا الحقيقي".
الرياضة، وكرة القدم في القلب منها بفضل شعبيتها الطاغية، وسيلة مهمة لصناعة وصياغة مستقبل أفضل، مثلها في ذلك مثل الفن والثقافة والعمل الإنتاجي الجاد. إهمال كرة القدم وإنكار أهميتها خلل فادح، والمبالغة في الاهتمام بها والإعلاء من شأنها خطأ لا يقل في فداحته ونتائجه الوخيمة.
التعددية سمة أصيلة في عالم الكرة، ومثلما يختلف البشر في الأديان والرؤى السياسية والأفكار والثقافات، يبدو منطقيًا أن يمتد الاختلاف بينهم إلى ساحة الكرة ذات الأندية المتعددة المتنافسة، وهذا المعنى يعبر عنه كمال عبدالجواد، في "السكرية"، عندما يقول لصديقه رياض قلدس: "لا المسلمون على وفاق، ولا المسيحيون على وفاق، وستجد نزاعًا مستمرًا بين الشيعي والسني، وبين الحجازي والعراقي، كالذي بين الوفدي والدستوري، وطالب الآداب وطالب العلوم، والنادي الأهلي والترسانة، لكن رغم ذلك فشد ما نحزن إذا طالعنا في الصحف خبر زلزال باليابان!".
التباين في الأذواق والانتماءات ووجهات النظر من سنن الحياة، في الدين والسياسة والعلم والرياضة، ولا شيء يبرر التشنج الذي يقود إلى الحدة والعنف. وحدة الوجود الإنساني تفرض التعايش والتناغم النسبي، وعندما يفقد العجوز محتشمي زايد، في "يوم قتل الزعيم"، آخر أصدقاء عمره، يستعيد بعض الذكريات التي تجمعهما، ويظهر الاختلاف الوحيد بينهما في كرة القدم: "أنتفق في كل شيء ونختلف في الأهلي والزمالك؟".
الكرة في نهاية الأمر متعة لمن يلعبها أو يشاهدها من مقاعد المتفرجين، وأداة مهمة للتنفيس عن المشاعر المكبوتة والانفعالات الحبيسة، والتخلص من التوتر المزمن وليد حياة حافلة بالتعب. في هذا الإطار تطل أهمية الكرة، ولا ينبغي لها أن تتجاوزه.