نعمان المنذر يكتب: الصحافة المتأنية في مواجهة الإرهاق والنسيان (3)
في مقالها لموقع ABC الإلكتروني، البوابة الرقمية للمناقشات الأخلاقية والاكتشافات الفلسفية، ضربت ميجان لو موسييه مثلاً ميلان كونديرا في روايته الشهيرة ( البطء) حينما ذكر أن درجة السرعة تتناسب طردياً مع شدة النسيان، وبالتالي فإن درجة البطء تتناسب طردياً - بالضرورة - مع شدة الذاكرة. حيث يرى كونديرا في تلك الرواية أن عصرنا الحالي قد باع روحه إلى شيطان السرعة بدافع الرغبة المحمومة في السبق، أياً كان هذا السبق.
تعد رؤية كونديرا حصيفة للغاية، وكذلك ملاحظة لو موسييه، لأن عصرنا الحالي لا يتميز بالسرعة فقط؛ بل بوفرة المعلومات أيضاً، فحياتنا أضحت بالفعل مليئة بالأخبار المتسارعة والمعلومات الهائلة عبر وسائل التواصل الإجتماعي .
يمكننا إذن أن نستلهم من كونديرا وروايته أمراً مهماً، يفعله كل منا دون أن يشعر، وهو أنك إن أردت تذكار شيئ ما فسترى نفسك تبطئ المسير، وأنك إذا رمت نسيان أمر ما فإنك تشرع بحث الخطى لذا، وفي عصر النسيان، هل تساعدنا الصحافة المتأنية على تذكر ما يهم.
قام معهد رويترز لدراسة الصحافة في العام 2019 بدراسة حول تأثير الصحافة المتأنية في مواجهة ما أسمته ( متعة الضياع ) الناجم عن سرعة الأخبار، وكان أبرز ما وصلت إليه الدراسة هو ازدياد الحاجة لهذا النمط البطيء من الصحافة من أجل وضع حد لتلك المنشورات والقصص المواكبة لسيل الأخبار السريعة المتدفقة، كما توصلت الدراسة أيضاً إلى ارتفاع نسبة مستهلكي الأخبار الذين يشعرون بالإرهاق جراء التعرض للكم الهائل من الأنباء العاجلة والسريعة.
كذلك خلصت دراسة معهد رويترز إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع الشريحة المستهدفة يحملون مسؤولية انتشار الأخبار الزائفة ومعالجتها على عاتق المنافذ الإخبارية ومنصات النشر على اختلاف مسمياتها.
وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال آخر، كيف يتسنى للصحافة المتأنية أن تستقطب الملايين من القراء المنهكين بسبب التسارع المجنون لوتيرة الأخبار؟ تحت عنوان ( ممارسة الصحافة )، جاءت الدراسة التي أعدها كيم أندرسن، الأستاذ المساعد في جامعة جنوب الدنمارك، لتجيب السؤالين أعلاه، وتنيط اللثام عن ظاهرة ( التعب الإخباري ) ومدى إمكانية نجاح الصحافة المتأنية في أن تكون حلاً محتملاً لمعضلتي النسيان والإرهاق.
اعتمدت دراسة أندرسن على موقع Zetland الدنماركي للصحافة البطيئة، والذي تتصدره الجملة الافتتاحية التعريفية التالية " موقع الذين يفضلون البصيرة المتأنية على البصر السريع "، الموقع لديه نحو 14 ألف مشترك.
وعقب سؤال العينة المستهدفة حول احتمالية شعورها بالإرهاق من كمية الأخبار المتاحة ومدى السأم الذي أصابها جراء امتلاء تلك الأخبار بالسلبية، جاءت النتيجة أن غالبية المعنيين بالمتابعة الدورية للأخبار هم الأكثر استخداماً للصحافة البطيئة أو المتأنية. ووصفت الدراسة تلك الإجابة بالمنطقية كون المواظبين على متابعة الأخبار هم الشريحة الأكثر انفتاحاً على تجارب صحفية جديدة بمقدورها أن توفر لهم بديلاً مناسباً لكل ما تعرضوا له من سلبيات الصحافة السريعة وعديد أخبارها الزائفة.
ولأن النوايا الحسنة لا تتحقق بسهولة، فقد حذرت الدراسة من مغبة تجنب تلك الشريحة لمتابعة الأخبار بصفة عامة إذا ما أخفقت الصحافة المتأنية في إجراء مراجعات دورية لأساليبها ضمن سياسات عامة لا تتعلق فقط بقياسات جودة الأداء؛ بل وحتى شكل المنتج الصحفي البطيء، الأمر الذي يجعل هذا القارئ المتابع أو تلك الشريحة المهتمة في حالة اهتمام مستمر بما تقدمه الصحافة المتأنية على مستوى المضمون والشكل أيضاً.
إن النفور من الأنباء والتعب الإخباري والأمراض الأخرى الناتجة عن عصرنا الرقمي، ما هي إلا أعراض لمشاكل أكبر تتعلق بسلامة أنظمتنا الإعلامية بالدرجة الأساس. لذلك تقدم الصحافة المتأنية تجربتها خلال العقد المنصرم على أنها لقاح ومصل ضد الانخراط في الأخبار الزائفة، خصوصاً تلك التي تنتشر على وسائل التواصل الإجتماعي. ولأن الطريق نحو مستقبل واعد للصحافة المتأنية ليس مفروشاً بالورود، كان لزاماً أن نشير إلى التحدي الأبرز الذي تواجهه دوماً الصحافة المتأنية، وهو إمكانية نجاحها في الاستمرار والديمومة وسط عالم التنافسية الشرس، عبر جذب المستهلكين لها وحتى المستثمرين والمعلنين.
يقول ماكس ستوسيل، الشاعر الأمريكي وصانع الأفلام الذي اختارته المجلة الأمريكية ( فوربس) واحداً من أفضل رواة القصص لعام 2020 ، " في الوقت الحالي، هناك فرصة لبناء منتجات تساعد الناس بعمق، وتجعلهم يدفعون مقابل تلك المنتجات ".
ومن البديهي أن نتوقع توافر سوق متنام للمقالات والتقارير الصحفية وغيرها من الكتابات الواقعية التي تستغرق وقتاً لاكتشاف الأشياء وإنتاج القصص التي يفتقدها الآخرون وتغذيتها في ذات الوقت بأعلى المعايير الصحفية؛ ولكن علينا الأخذ بعين الاعتبار أن أية استراتيجية لتحقيق الدخل وجني الأرباح لن تؤتي ثمارها على المدى الطويل إذا لم يتمكن الناشرون من إنتاج محتوى يثق به القراء، لأن الثقة هي اللبنة الأكثر أهمية في رحلة زيادة الولاء وجذب القراء نحو الصحافة المتأنية.
إن جل ما تحتاجه الصحافة المتأنية هذه الأيام هو ديمومة التعريف بها و بإنتاجها المتنوع في العشرية السابقة، وهنا نتوقف قليلاً عند الكاتب الأمريكي والت هارينغتون، صاحب كتاب ( العبور: رحلة الرجل الأبيض إلى أمريكا السوداء ) والحائز على جائزة غوستافوس مايرز لدراسات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، عندما تحدث عن الدور الرئيسي للصحافة كما يراه، وهو تسجيل ما يحدث في العالم والمحافظة عليه ومشاركته خوفاً من ضياعه وحرصاً على عدم تبديده، لأن ذلك سيمنحنا الكثير من المواد في سبيل إنشاء ذاكرة ثقافية وجماعية.
إن الصحافة السريعة ستظل عاجزة عن صنع ذلك كونها لا تمتلك المؤهلات الضرورية من أجل لعب هذا الدور، وحدها الصحافة البطيئة والمتأنية، بحسب هارينغتون، من تستطيع تقديم النقد المطلوب وتوفير البديل الذي يمكننا الوثوق به. عندها، ومع ارتفاع نسبة إنتاج المحتوى الجيد، يصبح التوزيع أمراً سهلاً، مع حتمية الانتباه الدائم لمسألة الحاجة إلى جذب انتباه الجمهور بشكل عام.
ستبقى الحاجة إلى الصحافة المتأنية على درجة عالية من الأولوية ما بقيت الآثار السلبية للتكنولوجيا ومخاطر استهلاك وسائل التواصل الإجتماعي على سلامتنا النفسية وصحتنا العقلية وعلاقاتنا بالمجتمع، في ظل تنامي مخاوف هذا المجتمع من تراجع نسبة الأخبار الحقيقية مقابل تلك المزيفة.
تؤدي حاجة الصحفي لمراقبة الأخبار باستمرار إلى القلق والإرهاق، وهذا ما انعكس أيضاً على القراء. المزيد من السرعة والمزيد من المحتوى لم يعد أفضل، قد تقدم الصحافة المتأنية حلاً ". هكذا ترى سالي بوك، الصحفية البريطانية السابقة والتي تعمل حالياً كطبيبة نفسية.
إذا كان هنالك من يلجأ للكتابة الإبداعية كي لا يذهب إلى عيادة طبيب نفسي، أو كما يقول الكاتب والروائي الأمريكي جيمس فري " إنني أكتب كي لا يصيبني الجنون "، فهي الدعوة للاطلاع على تجربة الصحافة البطيئة المتأنية، والتفكير ملياً وجدياً في إمكانية استنساخها في مصر وبالتالي منطقتنا العربية، كي لا نجد أنفسنا، وتحت وطأة الضغوطات النفسية للأخبار السلبية المتسارعة، أمام مجتمعات تعج بالاكتئاب والقلق وأمراض عصبية أخرى.