كرم زهدي.. وصايا الوداع
رحل اليوم عن عالمنا كرم زهدي، رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية الأسبق، الذي وافته المنية اليوم بالمستشفى الجامعي بالإسكندرية عن عمر 69 عاما، بعد رحلة طويلة مع التقلبات الفكرية والسياسية والممارسات المتقلبة بين التطرف والرجوع إلى السلمية، بدءًا من انضمامه إلى الجماعة الإسلامية في سن صغيرة ومشاركته في أعمال قتل السادات والمشاركة في أعمال العنف في أسيوط، وحياة السجون جراء ذلك، مرورًا بالمراجعات الفكرية ونبذ العنف التي قادها مع عدد من قيادات الجماعة الإسلامية، والاعتراف بالخطأ في قتل السادات، وصولًا إلى عزله من مجلس شورى الجماعة، بعد 25 يناير لرفضه عودة استخدام الجماعة العنف مرة أخرى، حتى وافته المنية اليوم إثر إصابته بكورونا.
من رحلة كرم ووفاته ننتقي رحلة السجون، ونأخذ منها وصايا الوداع لبعضهم في لحظات الفراق عندما يحين خروج أحدهم من المعتقل بعد بدء الإفراج عنهم على اثر تفعيل مبادرة وقف العنف وقبول الحكومة لها، وكانت لحظات الوداع بالنسبة لهم أشق لحظات النفس.
ونقتطف جزءًا من هذه الوصايا من كتاب نهر الذكريات الذي شارك في تأليفة كرم زهدي إلى جانب مجموعة من قادة الجماعة الإسلامية هم علي الشريف، حمدي عبدالرحمن عبد العظيم، عاصم عبدالماجد ، ناجح إبراهيم، أسامة إبراهیم حافظ، فؤاد الدواليبي، عصام دربالة.
ومن وصايا الوداع الواردة في الكتاب:
"نودعكم بعد أن رأينا عزمكم على الوفاء بالعهود ، وبعد أن شعرنا مدی تجاوبكم العظيم مع المبادرة ومدى تفهمكم لها.
نودعكم ونحن سعداء لثقتكم فينا كما نثق فيكم ، وكذلك لقبولكم الذي لم نتوقعه لكل القضايا التي طرحناها عليكم.
السجن ضيق فوسعوه بأخلاقكم، فالمكان يسع ويضيق بأخلاق أصحابه.. وتالله ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق.
لا تسيئوا تقديم الإسلام إلى الآخرين، ولكن قدموه غضًا طريًا نابضًا حيًا فتيًا، واهتموا بمعالي الأمور، واتركوا سفاسفها، ولا تستجيبوا لطبيعة السجون التي تضيق أفق الإنسان وتحصر اهتمامه في توافه الأمور وتستغرق وقته في جدل عقيم حول قضايا ظاهرها ضخم وحقيقتها تافهة، وعيشوا مع الحديث الشريف: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ".
إذا استفزكم أحد في السجن أو خارجه فلا تندفعوا وراء هذا الاستفزاز وعليكم بخيار الصبر .. وهو ليس خيار الضعفاء والجبناء كما يتصور البعض، ولكنه خيار الأقوياء والأفذاذ من الرجال .. وهو خيار أولي العزم من الرسل، وهم أعظم الرسل، والرسل أعظم الخلق "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل" وهو خيار إيجابي عظيم وليس خيارا سلبيا كما يتصور البعض.. ألا ترى أن الإمام أحمد بن حنبل هزم المأمون والمعتصم بالصبر الجميل وانتصر مذهبه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة.
استعينوا بالسعة التي وسع الله بها عليكم فيما يحب الله من العبادات والحب في الله تعالى وطلب العلم النافع وصلة الأرحام.
نحن ما جئناكم لنفتح بابا للنبش في الماضي والدوران حوله والاستغراق في، ولا للبحث عن المخطئ والمصيب ولا لتحميل المسئولية لفلان أو فلان.. بل جئناكم من أجل المستقبل.. فلنطوِ صفحة الماضي بما فيها ولنستقبل زمانا جديدا وعهدا جديدا يكون فيه الخير وتكون فيه الحكمة أعمق ويكون فيه الصلاح أبلغ وتكون فيه هداية الخلائق أعظم وأكثر.
لا ترفعوا معيارا للتكريم والتفاضل بينكم إلا الذي رفعه الله تعالى: "إن كرمكم عند الله أتقاكم).. و"لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى" . ولا تجعلوا أساسا للحب إلا الحب في الله .. لقد جاء الإسلام فصهر بين صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وعلي القرشي في بوتقة واحدة، واستطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستفيد من الخصال المحمودة لكل قبيلة ويوجهها لصالح الإسلام والمسلمين وأن يتغاضی عن الحضال والطباع المكروهة.
أوصي نفسي وإخواني أن نعطي ظهورنا للماصي .. لقد تحولت آلامه وأشجان وأحزانه إلى أحاديث.. مجرد أحاديث نتسامر بها، ذهب الألم وبقي الثواب إن شاء الله.
انظروا إلى الأمام فأحلى الأيام لم تأت بعد.. وأسعد الساعات لم نهنأ بها بعد وأجمل الأماني والأحلام لم تتحقق بعد.. اليوم خير من الأمس وغدا إن شاء الله سيكون خيرا من اليوم، وتأكد أن الله لن يضيع صبركم وثباتكم.
نحن مجلس شورى الجماعة الإسلامية نتحمل المسئولية كاملة عن كل ما حدث .. ولا يفهم أحد أننا نحمل إخواتنا بالخارج أو نحملكم أنتم المسئولية.. ونسأل الله أن يرضى عنا بتحملنا لهذه المسئولية الجسيمة
من رحمة الله بنا وبالناس أن جعل مع العسر يسرا ولم يجعل بعده .. وكلما كان العسر كبيرا والبلاء شديدا كان اليسر كذلك عظيما وكبيرا .. وقد بدأت بشائر الفرج واليسر والغيث يبدأ بقطرات ثم ينهمر ووأشد الأوقات ظلمة هي التي تسبق طلوع الفجر .. وأشد الأوقات بردا في الشتاء هي التي تشبق طلوع الشمس .. وإنني أبصر في الأفق البعيد نعمة من الله لا تكاد تنتهي
من القوة في الدين أن نقر بالحق أينما كان ومع من كان ، ونرفض الباطل ونرده أينما كان ومع من كان.
كونوا كالشجرة المثمرة إذا رماها الناس بالحجر رمتهم بالثمر .
أدوا زكاة قدرتكم وزكاة القدرة هي العفو وليس البطش .
ولقد ظلمتم كثيرًا في السجون، ومن ذاق مرارة الظلم عرف قيمة العدل.
يصف مؤلفو الكتاب لحظات يوم الوداع "ففي هذا اليوم كم بكت العيون وسحت بالدموع وخفقت القلوب واشرأبت الأعناق عندما أنشد المنشدون أناشيد الوداع .. إنها لحظات مؤثرة في النفوس يتذكرها كل من عاشها .. فرغم قصر الفترة التي عشناها مع هؤلاء الإخوة إلا أنها ربطت بين قلوبنا وأشعرتنا أكثر وأكثر بمأساتهم ، لقد عشنا همومهم .. هموم من طلقت زوجته ، وهموم من تفرقت أسرته في سجون مصر شمالا وجنوبا .. هموم من أصابته الأمراض الخطيرة في السجن فأضيف إلى سجنه سجن أكبر وأشق على نفسه.. هموم كثيرة جدًا من الفقر والحاجة والعوز والألم وموت الوالدين وهجران الأوطان والأولاد وكان يؤلمنا أننا نودعهم وأغلبهم ماكثون في المعتقل لفترة .. تألمنا لسجنهم رغم أننا سجناء مثلهم ، بل إننا قبلهم وقد نمكث بعدهم فليس هناك وعد بشيء، ولم نطلق المبادرة من أجل شيء زائل من عرض الدنيا".