الروائي مصطفى نصر يكتب لـ"القاهرة 24: محمد حافظ رجب ذلك اللغز
في أول ندوة أحضرها بقصر ثقافة الحرية بالإسكندرية- وذلك كان في أواخر عام 1967- كنتُ مرتبكاً، والخجل يجعلني أخاف من أن أتحدث، كان هناك الدكتور على نور، الذي سأل:
- فيه حد معاه قصة يقرأها؟
مددت يدي، وقلت:
- نعم معي قصة.
وقرأتُ كلمات قليلة من القصة، أخطاء كثيرة في اللغة، وفجأة جاء نبيل فرج، ثم محمد حافظ رجب. فحدثَت جلبة، وحركات مقاعد. فتوقفتُ عن القراءة، أشار إلي الدكتور علي نور بأن أكمل القراءة، لكن نبيل فرج اعترض قائلا:
- لقد حددنا في الندوة السابقة، القصة التي سنناقشها.
توقفتُ عن القراءة، وقال الدكتور علي نور لي:
- يجب أن تتوقف عن الكتابة لمدة عام، تقضيها في القراءة فقط.
أحسست بإحباط فقد كنتُ أظن قبل دخول قصر الثقافة، أنني سأحدث فيه ثورة، وسوف يحيطون بما أكتب، وسيعجبون من كتاباتي الهائلة.
وقتُها دار الحديث بين الحاضرين، قال علي نور لمحمد حافظ رجب:
- أفضل قصصك، هي التي كتبتها عن حي غربال الذي تعيش فيه.
واعترض محمد حافظ رجب، فهو يرى أن أفضل قصصه الكرة ورأس الرجل، وطريقته في فرض واقع متخيل استوحاه من الفن السينمائي والنزوح نحو الواقع محلقا في الخيال.
قرأتُ محمد حافظ رجب في ذلك الوقت، مجموعته الأولى "الكرة ورأس الرجل" ثم مجموعته الثانية "غرباء"، وحضرتُ اجتماعات اتحاد أدباء الأقاليم الذي أقامه في هذا الوقت بمساعدة الرجل الطيب الخلوق حسني بدوي، والذي أذكره من مجموعتنا الحالية عبد الله هاشم. وصار محمد حافظ رجب رمزا بالنسبة لنا، نتحدث في جلساتنا عن قصصه، ونتابع ما ينشره في الجرائد والمجلات، ونتبادل كتبه، وقد غضبتُ عندما قال أحد كتاب جيله في لقاء معه في جمعية الشبان المسلمين:
- إنهم ينشرون له في الجرائد من واقع العطف عليه.
فواجهت هذا الكاتب وعارضتُه بشدة.
أنا سعيد لأنني عاصرت محمد حافظ رجب وهو في أوج قوته، ولو أني لا أعرف تفاصيل حياته وقت أن سافر وعمل بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وقد ذكره خيري شلبي في روايته البديعة "موال البيات والنوم "، أطلق عليه اسم مسعد كامل دهب، فقد شاركه السكن في بدروم عمارة عندما سكنا معا في مدينة القاهرة، فقال عنه:
أعرفه من الإسكندرية، حيث كنا معا أعضاء في جمعية أدبية وهمية مكونة من مجموعة أصدقاء يزاولون هواية الكتابة الأدبية، أبوه صاحب مقلاة لبيع اللب والفول السوداني في حي محرم بك، يشتري الكتب والمجلات القديمة بالأقة ليحيلها إلى قراطيس يبيع فيها.
مسعد ابنه منذ طفولته كانت هذه هي مهمته التي وكلت إليه بشكل رسمي منذ أن سقط في امتحان الشهادة الإبتدائية، فدأب على قراءة كل هذه الأوراق قبل تحويلها إلى قراطيس، فركبه جنون الكتابة، ثم جنون الأدب، فراح يقلد ما يقرأه في كتابات إن - افتقرت إلى أصول الكتابة المتبعة حينذاك – فإنها تنطوي على صدق وحرارة وتجربة، كان نصف مجنون ونصف عاقل.
يحكون حكايات كثيرة عن صراع محمد حافظ رجب مع يوسف السباعي- سكرتير المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في هذا الوقت، والذي تولى وزارة الثقافة بعد ذلك- وأن يوسف السباعي اتصل بحمدي عاشور- محافظ الإسكندرية- طالبًا منه إنقاذه من محمد حافظ رجب، فنقله للمتحف اليوناني الروماني. وخفتت حدة محمد حافظ رجب، فابتعد عنا، انشغل بمشاكله، وأرسلتني السيدة عواطف عبود– مديرة الثقافة وقتذاك– لعمله بالمتحف اليونلني الروماني - لكي يسافر معنا في سيارة مديرية الثقافة إلى مدينة الإسماعيلية لاستلام شهادة تكريم له، فرفض بشدة، كان رافضاً العودة إلى الأدب، وقال أمامي في لقاء آخر:
- كتابة القصة عندي لا تستحق كوب الشاي الذي أشربه وقت كتابتها.
وظل محمد حافظ رجب موجودًا في حياتنا الأدبية، فعندما قابلت الرجل النبيل الدكتور عبد القادر القط في حجرة الدكتور عبد العزيز الدسوقي- في آخر أيام مجلة الثقافة، وعرف أنني من الإسكندرية - سألني عن محمد حافظ رجب، قال لي:
- صحته عامله إيه؟
وعندما تحمس الدكتور الدسوقي لزميل لنا من الإسكندرية وشرع في طبع كتاب له في سلسلة أدبية يشرف عليها تُصدرها هيئة الكتاب وقابل الدكتور محمود الشنيطي - رئيس الهيئة -، واثني على زميلنا، فقال له الدكتور الشنيطي:
- يعني كويس كده، زي محمد حافظ رجب؟
فقال الدسوقي له:
- هو الأديب مكانش يتشعبط في التورمايات ما يبقاس أديب؟!
ظل محمد حافظ رجب لغزا، وقد حضرت ندوة بقصر ثقافة الحرية ليوسف أدريس، فما إن رأى محمد حافظ رجب، حتى حياه وأثني عليه ودعاه للجلوس بجواره على المنصة، وأعطاه الكلمة ليتكلم، فرفع محمد حافظ رجب وجهه لأعلى وتحدث بطريقته المميزة قائلا ليوسف إدريس:
- لقد شاركت في ذبحنا.
وسأل إدريس في دهشة:
- أنا يا حافظ، شاركت في ذبحك؟!
ثم صمت للحظات وأكمل قوله:
- سألت نفسي كثيرا لماذا لم تحقق نجاحًا كبيرًا رغم موهبتك الهائلة، اكتشفت الآن السبب، شعورك بعقدة الظلم.
كلما قابلت أديبا – خارج الإسكندرية - يسألني عن محمد حافظ رجب، ويحاول أن يفسر مشكلته، ما الذي يجعل كاتبًا موهوبًا مثل هذا، أقام الدنيا وأقعدها بكتاباته، وجعل العقاد يبدي رأيا فيه، ويتحدث عنه أنيس منصور في كتابه في صالون العقاد، وفجأة يتوارى ويبتعد؟!
البعض يُرجع هذا إلى أن الطريق الذي سلكه يؤدي إلى شارع سد، والبعض يُرجع هذا إلى أن الطريق الذي سلكه يستوجب قراءة مستمرة وإجادة لغة أجنبية، وهو لم يفعل ذلك. وآخرون يربطون بين مشاكله وبين عمله في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب أيام يوسف السباعي، والبعض يتحدث في أشياء أخرى حساسة، من الصعب التحدث فيها.
قرأتُ كل ما كتبه محمد حافظ رجب من قصص، وهي أعمال قليلة لا تزيد عن ثلاث كتب، وتذكرتُ ما قاله الدكتور علي نور في أول لقاء أدبي لي في الإسكندرية، من أن أفضل ما كتب محمد حافظ رجب هي قصصة التي تدور في الحي الشعبي الذي كان يسكنه - حي غربال - وأنا أعشق الأحياء الشعبية، كما أنني تربيت في حي غربال وكتبتُ عنه كثيرا، وكنا نسمي المنطقة التي يسكنها حافظ رجب " غربال الشرقي ".
وكالعادة- يحاول البعض الاستفادة من المواقف، وتحقيق مكاسب خاصة على حساب الآخرين، فاتصلوا بمحمد حافظ رجب وحاولوا إعادته ثانية إلى الأدب، والفن بصفة عامة تتركه يتركك، وتنساه ينساك، فعاد محمد حافظ رجب مفتقدا تألقه، وسحر كتاباته التي عشنا على ذكرها. وفي رأيي أن من حاولوا إعادته للساحة الأدبية، أضروا بمسيرته.
المركز القومي للترجمة يطلق دورة جديدة من جوائز رفاعة الطهطاوي