نعمان المنذر يكتب: صناعة الصحافة المتأنية.. الفرص والتحديات (1 -2)
"إنها سجل أخبار الشعب التي أسسها يوليوس قيصر قبل الميلاد بعقود خمس!"، تلك هي إجابة بعض المؤرخين الذين يرون السبق في تأسيس الصحافة للإمبراطور الروماني الشهير، حين رأى ضرورة إصدار نشرة دورية تلبي طلبات العامة في الاطلاع على أخبار مجلس شيوخ روما، ومن ثم نواحٍ حياتية مختلفة، قضائية كانت أم حربية أو حتى اجتماعية.
ولكن البعض الآخر يرى غير تلك الإجابة، فمنهم من يعتقد بأن حجر رشيد يمثل نموذجًا حضاريًا متطورًا من نشر أوامر الحاكم وإذاعة قراراته. فالحجر المكتوب بلغات ثلاثة، كان قرار أصدره المجمع الديني في مدينة ممفيس، وتم نقش الحجر بالهيروغليفية للكهنة، وباليونانية للمتحدثين بها، وبالديموطيقية لعامة الشعب، وكان ذلك نحو قرنين اثنين ما قبل ميلاد السيد المسيح.
ومن الناس بعضٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يرون في مسلة حمورابي للشرائع بالألف الثانية قبل الميلاد، صحيفة أولى لتداول القوانين، ومع مرور الزمن تطورت فكرتها حتى تجلت لنا جريدة الوقائع المصرية الخاصة بنشر اللوائح والقرارات التي أمر بتأسيسها محمد علي باشا في عام 1829م.
ولكن جميع من سبق يتفقون على أن الصحافة التي وصلت إلينا اليوم في شكلها الراهن، كانت قد بدأت إرهاصاتها في أوروبا ما بعد اختراع الطابعة (1447م) على يد الألماني غوتنبرغ، ثم أخذت الصحافة في التطور شيئًا فشيئًا حتى أضحت منتجًا لا غنى للناس عنه، وسوقًا ضخمًا لا بديل عند أعتى النظم السياسية له.
واليوم، ها هي الصحافة - بأشكالها المتنوعة - قد أمست صناعة مستقلة في حد ذاتها، قائمة على ركنين رئيسيين: رأس المال والعمل المؤسسي، ولا قيامة للصحافة دون هذين العنصرين، فإذا غاب أحدهما انهارت هذه الصناعة؛ حتى وإن حاولت ذائقة القراء - جاهدة - إسعافها.
الأمر الذي يجعلنا أمام حقيقة واضحة، أن الاستثمار في الصحافة يحمل من المخاطر الشيء الكثير الذي لا نجده أو نواجهه في صناعات أخرى؛ ما يفرض علينا حتمية التخطيط الجيد لكافة جوانب اقتصاديات صناعة الصحافة، وعدم الاعتماد على الارتجال أو الارتهان للمغامرة.
لقد تميز النصف الثاني من القرن العشرين بظاهرة انفجار المعلومات، وأصبح إنتاج أخبارها عبارة عن صناعة ضخمة لها سوق كبير لا يختلف عن أسواق السلع والخدمات، وتنفق الدول الصناعية الكبرى على إنتاج المعلومات أموالاً أكثر مما تنفقه على العديد من السلع الاستراتيجية المعروفة.
وإذا ما علمنا أن الصحافة الأمريكية تمثل نحو 1.5% من إجمالي الإنتاج الصناعي للولايات المتحدة بحسب منظمة اليونسكو، فإننا سندرك منذ البداية مدى الصعوبة التي تواجهها صناعة الصحافة بشكل عام من أجل الحصول على الدعم اللازم لتوفير وسائل وأدوات بنيتها الأساسية.
وفي حالة الصحافة المتأنية، ذلك النمط الناشئ منذ نحو العقد لا أكثر، هل من الممكن أن تحظى صناعتها بالفرص الممكنة لانطلاقتها واستمراريتها في مصر والمنطقة العربية؟ وبذات النمط الذي أتاح لها الازدهار في الغرب؟
يُعدُّ التحدي الأكبر أمام الصحافة المتأنية هو أن تكون مصدرًا للأرباح والنمو على المدى البعيد، وأن تحجز لها مكانًا في سباق التسلح الصحفي المحموم حول العالم على المدى المنظور، لا سيما في عقول الأوساط التي تحبذ نماذج صحفية قادرة على منحها الإشباع المطلوب.
أدى الضغط المتزايد على السرعة في الممارسة اليومية للصحافة إلى بروز سلبيات عدة في الناتج الاقتصادي لهذه الصناعة، فقد تسببت التقنيات الجديدة إلى إنهاء الاحتكار المهني للأخبار السريعة، كما نما بشكل كبير توفير الأنباء العاجلة المجانية، وقد أضحى ما سبق مؤثرًا عكسيًا على نموذج عمل الصحافة، حيث استحالت معه القيمة الاقتصادية للأخبار السريعة في حالة تدهور مستمر.
في دراسة أجرتها الرابطة العالمية للصحف منذ نحو العامين على مجال الأخبار السريعة (من / ماذا / أين / متى)، تبين لنا أن الوفرة المفرطة لتلك العواجل قد أفرزت لنا قيمة اقتصادية تقترب من الصفر! الأمر الذي أنتج معه حالة من الندرة المتزايدة في مفاهيم التحليل المتعمق وقيم الثقة والمصداقية على حد سواء.
أليس ما تم ذكره سلفًا يدعو للتساؤل عن إمكانية الصحافة المتأنية في أن تقدم لنا نمطًا جديدًا من السرد القصصي عالي الجودة يؤهلها كي تصبح صناعة ذهبية وفرصة عرض فريدة من نوعها؟
قد يجادل البعض في حتمية تحرير الصحافة لنفسها من المسار الرقمي السريع وأن تستثمر وقتها الشحيح ومالها في قصص ذات مضمون أكثر رصانة يتم سردها بأسلوب أدبي ومتخصص، فلا تقدم نفسها بديلًا لكافة أشكال الصحافة؛ بل أن تكون حركة تصحيحية لكل مضار وآفات السرعة.
قام عدد من المؤسسات الصحفية التي تنأى بنفسها عن سباق الأخبار العاجلة بعمل تحاليل عميقة وتقارير استقصائية، استطاع من خلالها القارئ أن يفهم خبايا مواضيع مصيرية في كافة المجالات عن طريق محتوى مدروس بشكل جيد وغني بالمعلومات، وتمكن عبرها المتابع من الحصول على التحقق والتوازن عقب غربلة متأنية للأخبار المزيفة.
يبدو ما سبق ذكره مثاليًا للغاية ومشجعًا إلى أقصى درجة؛ ولكن يبقى السؤال الأهم، كيف تم دعم جهود الصحافة المتأنية وإصداراتها في الغرب على مدار العقد المنصرم؟
انطلقت الشرارة الأولى للصحافة المتأنية عبر وسيلتين اثنتين: -
الأولى هي المنح الخيرية وجوائز المؤسسات الكبرى، والثانية هي مصادر التمويل الجماعي.
كانت المنح الخيرية والتمويل الجماعي وراء بعض الأمثلة الرائعة للصحافة المتأنية، كما أن جوائز المؤسسات تعد طريقة جيدة للحصول على المال من أجل تقديم عمل إبداعي ومثير في وقت لا تستطيع فيه غرف الأخبار عادة أن تدعم ذلك.
بحسب المركز الدولي للصحفيين وعن طريق برنامج زمالات نايت للصحافة الدولية، فإن مشاريع الصحافة المتأنية التي تم تنفيذها في البلدان المستقرة، لديها قابلية أكثر للنجاح، وغالبًا ما تتمكن من إحداث التأثير المستدام؛ ولكن العمل الخيري والجوائز ليست نماذج عمل مثالية ولا يمكنها إنقاذ نوع صناعة صحفية ناشئة!
ولأن بديهية الصناعة تقتضي أن يقوم شخص ما بالدفع من أجل الحصول على المنتج، يظل المقصد هنا أنه لا بد للقارئ أن يدفع مقابل الصحافة المتأنية وما تقدمه من دقة وحياد وحقائق يمكنها أن تصمد أمام التدقيق، بذات الدرجة التي يدفع فيها المرء للحصول على طعام صحي عبر نمط تغذية مفيد وبطيء، مغايرًا لذلك الشكل الضار الذي انتشر تحت ستار الأطعمة السريعة.
فمن خلال فحص نماذج الإيرادات لعدد من المؤسسات الناشئة في مجال الصحافة المتأنية، لن نجد نموذج عمل ثابت واحد يمكننا معه استقراء نتائج هذا الشكل الواعد من الصناعة الصحفية؛ ولكننا سنرى حزمة من الأساليب الإبداعية والمبتكرة الهادفة للربح، تتجنب جميعها الإعلانات المعروضة ويستفيد بعضها من سياسة التمويل الجماعي، فيما يعتمد البعض الآخر على الاشتراكات، بينما لجأ آخرون لرعاية العلامات التجارية وربطها بالأحداث ذات الصلة ومحل التغطية الصحفية، مثل الماركات الرياضية أثناء الحديث عن الألعاب الأولمبية أو أسماء مجلات وفضائيات علمية متخصصة عند الكتابة عن رحلات استكشافية ذات طابع مغامراتي بحت.
في الصحافة المتأنية، الوقت هو المال. لذا أصبح بالإمكان ربط هذا النمط الجديد من الصناعة الصحفية باشتراكات القراء ودفعهم في مقابل الحصول على إصداراتها، كما هو الربط هذه الأيام ما بين المجانية والأخبار السريعة العاجلة، وهو ما يعد أحد الفرص الحقيقية للاستثمار في هذا النوع من الصحافة.
كما يمكن لإصدارات الصحافة المتأنية الناشئة أن تصبح أكبر مستودع للمقالات الإخبارية المتعمقة والمتخصصة، في ذات التوقيت الذي يغدو بمقدورها أن تجني المزيد من الأرباح عن طريق الدفع مقابل جميع الرسوم التوضيحية والجداول البيانية؛ حتى سلسلة الصور المرفقة بأعمال الكتابة والتحرير.
ولما كان العائد الأبرز لمساهمة الكيانات الاستثمارية والجمعيات غير الحكومية في مشاريع تطوير الإعلام هو النهوض بالمجتمعات وتحسين حياة أفرادها عن طريق رفع مستوى الأدوات التي تنقل المعلومات إليهم، فإن المستقبل المالي لصناعة الصحافة المتأنية يظل مرهونًا بنظرة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال الذين يراهنون على جدوى النهوض بقطاع الصحافة في الآونة الأخيرة.
تبقى الفرصة سانحة وكبيرة في مجال صناعة الصحافة لاختبار طرق إبداعية جديدة في نشر الصحافة المتأنية للقارئ المصري والعربي. فإذا كانت إصدارات الصحافة المتأنية في الغرب قد استمرت لأن جمهور المتابعين هنالك ظل مستعدًا للدفع على مدار السنوات العشر الماضية، فالصحافة المتأنية يمكنها أن تشغل حيزًا كبيرًا على حساب ما ساد لدينا من أنماط صحفية متواضعة، غثة في معظمها، إلا ما رحم ربي من سمينها.
الصحافة المتأنية ليست مجرد اختيار جمالي أو تقني؛ إنها انحياز فلسفي أيضًا