"بورتريه".. قصة قصيرة لمرفت البربري
منذ سنوات وأنا أنتظر ذلك النور الذي يشق حلكة ليلي فينبثق منه نهار، متلهف لأن أسير طريقه الوضيء أن أطير في فضاءاته الرحبة، أن تتلقفني الأيادي السنية، وتستقبلني الأوجه المشرقة، أن تبشرني بانتهاء أوجاعي المزمنة، وخيباتي المرصوفة على طريقي الذي كنت مرغم على السير فيه، ولكنني ذات صدفة، استبدلت الطريق، بسبيل لا يخيب سالكه، صاحبت أفئدة نقية وهجرت قلوبًا سكنها الخبث والغل، افترشت التراب فتسرب في جسدي حنانه، كان أرحم من فُرُشٍ بطائنها من انكسار ولحائفها من صهدِ الخيبات، ذكريات أمسي تسْعلُ هزائم، تركضُ في خبايا نفسي المهزومة تبحث عن أُنسٍ فلا تجد إلا الخواء، تبحث عن برٍ فتلتقي بالعقوق ناثرًا شتاءه في فصولها، كنت منذ سنوات ملء الأسماع والأبصار، فنانا أخباري ترصع سماوات الفن بصوري وأعمالي الفنية، كانت لوحاتي ماسية، تعرض في صالات العرض العالمية، ويقتنيها الملوك وذوي الحافظات المترعة بكروت الإتمان، أحببت امرأة من قرنفل، لاذعة اللذة شهية اللهفة، كفراش جذبتها أنوار شهرتي، قابلتها أثناء تجوالي في معرض لوحاتي بباريس وقفت أمام بورتريه لامرأة تشبه فتنتها فقالت: أراها رائعة الجمال لذلك سعرها الأغلى بين لوحاتك.. يبدو أنها لامرأة تحبها.
مبديا إعجابي بجمالها الأخاذ:
- أولا أمام جمالك أصبحت بلا ثمن ثانيا ليس كل من رسمتها في لوحاتي أحببتها.
رمقتني بنظرة من فتنة تلهم الإبداع روعته:
- إذا أنت لا ترسم من تعشقهن.
تكلم بالهيام لساني ووله العشق في عنيّ باديا قلت:
- أنا لم أعشق من قبل ولكنني اليوم.. غرقت في بحر العشق ولا أرجوا منه نجاة.
عشقتها ولم تنتهِ أيام المعرض إلا وكنا زوجين، وأنجبت منها بنتا وولدا كانو رحيق عمري، لم يرثوا مني غير اسمي وسامتي، وأشرِبوا خصالها، كان عشقها يزداد كلما طوقت جيدها بقلائد الماس، وينضب بحر عشقها إن قل ماء حافظتي، ورث أولادي أمهم في عشق المال، وأجبروني على أن يرثوا مالي حيا، بعد أن فرغت ورود ريشتي من عبيرها، وعزف الإبداع عن مصاحبتها، بعد أن أصابني الزهايمر، أقاموا دعوى بالحجر على أموالي، ونالوا كل ما أرادوه مني، ذات يوم كنت في نوبة يقظة من مرضى، أفهم ما يقال وأتذكر من يقول، سمعت حديثهم.
قالت ابنتي الجميلة التي أصبحت دكتورة جامعية لجليستي التي كانت تطلب زيادة مغاليق الباب لأنها وجدتني أهم بالخروج.
- لا أريد أن أعرف ما فعل وما يحتاج أنت تأخذين المال لتريحينا من إزعاجه، ليته يخرج ولا يعود، تركته أمي وتزوجت بعد أن طلقها وهو في وعيه بعد أن كبر وبدأ المرض يأكل ذاكرته، وأخي هاجر وارتاح من مشاكله وتركوني أنا أعاني.
سمعتها وعرفت ما كان يخفيه مرضى عن وعيي الهزيل..
تركتها تكمل حديثها مع الجليسة، وخرجت لا ألوي على العودة.
سرت وسرت حتى وجدت صحبة الأوفياء، تقبلوا وجودي وآنسوني وأتنسوا بي، كان كلما مر مار بنا، أطعمنا من بعض ما يطعم ما يكفي لسد جوعنا، أو منحنا في البرد غطاء يواري سوءة رعشتنا، كنت أنام وهما في أحضاني، أدفئهما ويمنحاني الأمان من أن يؤذيني أحدهم، فكانا كلما اقترب طفل مؤذٍ يريد ضربي، هاجموه فيرتعد مرتدا على عقبيه، وذات يوم طمع في سترتي أحد الشحاذين فلم يتركونه إلا والأوجاع ترتع بحسده، ظلوا على وفائهم لي ولم يهجروني، حتى بعد أن فاضت روحي، وجدت من ينوح على فراقي، عانقوا جثتي ونبحوا من ألم الفقد، فكان نباحهم ترنيمة وفاء تزفني إلى نعيم الخلاص، مر بنا فرأى عناقهم لجثماني أحد تلامذتي، فخلد بريشته صورة وفاء عبقرية، ثم انصرف.