بسبب الصيد الجائر وهوس الصينيين.. كيف اختفى فلاح البحر الأحمر الحقيقي؟

لا زال يتذكر أهالي البحر الأحمر وقائع الغرق المتكررة والكثيرة خلال الأعوام الماضية لشباب وصيادين أثناء الغوص بحثًا عن الثراء السريع، من داخل وخارج هذه المحافظة التي تمتد سواحلها بطول 1080 كم، من خليج السويس، إلى حدود السودان.

لكن الحادث الأكبر بالنسبة إليهم وما زال يُردد حتى الآن هو غرق وإصابات العجز والشلل لأكثر من 34 شابا في شهري يناير وفبراير من عام 2002، أثناء غوصهم في مياه البحر الأحمر بحثا عن الثراء السريع بصيد الحيوان البحري خيار البحر "sea cucumbers"، والمعروف علميا باسم Stichopus horrens"".   

دراسات علمية وباحثون يكشفون عن تعرض حيوان خيار البحر بالبحر الأحمر للاختفاء بسبب الصيد الجائر من قبل الحالمين بالثراء السريع على مدار أكثر من عقدين ما تسبب في خلل بالتوازن البيئي للحياة البحرية 

ولم تختف حالات الغرق على مدار عقدين أثناء عمليات الصيد الجائر لهذا الحيوان بعيدًا عن أعين السلطات المسئولة، لتتسبب هذه الممارسات حسب خبراء ودراسات علمية حديثة في اختفاء حيوان خيار البحر اللا فقاري الذي يعيش على قاع البحر في أعماق تتراوح بين 3 أمتار وحتى أكثر من 9 كم، ويتبع قبيلة الجلد شوكيات، ووصفه باحثون بأنه "فلاح البحر الحقيقي".  

وتسببت ممارسات الصيد الجائر لهؤلاء الصيادين وغيرهم في تدمير مجمعات خيار البحر الأحمر، وفقدراسة نُشرت في مجلة علم الحيوان الأساسي والتطبيقي ومجلة سبرنجر نيتشر عام 2019، للباحث محمد حمزة حسن بكلية الثروة السمكية بجامعة السويس، والتي أكدت أن هذه الممارسات تسببت في تدمير أعداد خيار البحر، من خلال التطبيق في دراسته على منطقة أبو غصون بالبحر الأحمر، جنوب مدينة مرسى علم.

وذكرت الدراسة أنه تم استغلال تجمعات خيار البحر في البحر الأحمر المصري من خلال الصيد غير الخاضع للرقابة مع عدم وجود إدارة، حيث تم مسح تجمعات خيار البحر في منطقة أبو غصون  البحر الأحمر، خلال ثلاث فترات في 2000 و 2006 و 2016، حيث كانت هذه الفترة وما بعدها هي الأكثر بحثا عن هذا الحيوان. 

 ولم يقتصر الباحثين عن الثراء السريع على صيادي البحر الأحمر بل امتد أيضا إلى إقبال آخرى من محافظات أخرى مثل الإسكندرية، محملين بمعدات وأنابيب للغطس تحت الماء لصيد حيوان خيار البحر بكميات كبيرة، حسب ما ذكر الريس غريب صالح، رئيس جمعية الصيادين بالبحر الأحمر، الذي أكد اختفاء خيار البحر بصورة نهائية.

انخفاض الأنواع من 13 إلى 7 أنواع 

وأشارت الدراسة إلى أنه في عامي 2000 و 2006، كان العدد الإجمالي للأنواع المسجلة 13 نوعًا، انخفض إلى 7 أنواع فقط في عام 2016، موضحة أن الكثافة السكانية لخيار البحر تأثرت بشكل كبير بالصيد الجائر وأظهرت نمطًا موحدًا منخفض الكثافة جدًا في عامي 2006 و 2016 بعد تم تسجيل كثافة عالية في عام 2000، مؤكدة اختفاء 82.6% من أنواع خيار البحر الأصلية خلال 16 عاما. 

ولم يكن لقرارات الجهات المسئولة بحظر صيد خيار البحر تأثير في استعادة المخزونات المستنفدة حسب الدراسة، التي أشارت إلى أن مصايد الصيد  بدأت على نطاق ضيق بواسطة قوارب صغيرة ثم توسعت بشكل غير قانوني ما تسبب في نضوب خطير لمخزونها بسبب  قلة وعي الصيادين وغياب الإدارة من المشكلة، حسب ما ذكر الدكتور محمود عبد الراضي دار، مدير المعهد القومي لعلوم البحار بالبحر الأحمر. 

A Flourish chart

A Flourish chart

A Flourish chart

ولا تقتصر تهديدات خيار البحر على مصر فقط، فحسب الدراسة فإن خيار البحر يتعرض للصيد الجائر في جميع أنحاء العالم، حيث أفادت بعض التقارير أن تجمعات خيار البحر في مناطق الصيد الجائر قد تتطلب ما يصل إلى نصف قرن في غياب أنشطة الصيد التي يتعين إعادة بنائها. 

رحلة الصيد والحظر 

وبدأ صيد خيار البحر في البحر الأحمر -وفق الدراسة-، في عام 1998 بجمع منخفض المستوى عن طريق قوارب الصيد، ثم تم تسجيل التوسع في مصايد الأسماك في عام 2000، وبناء على ذلك أعلنت محافظة البحر الأحمر فرض حظر على صيد خيار البحر في عام 2001، لكنه لم يكن الحظر فعالًا ما تسبب في انخفاض كبير في خيار البحر. 

ونتيجة للضغط المستمر الذي تمارسه الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية التابعة لوزارة الزرعة، رفعت محافظة البحر الأحمر الحظر المفروض عليها في عام 2002، وأدى هذا القرار إلى توسع مصايد خيار البحر، ما تسبب في انخفاض خطير في أعداد وإلى حدوث فرض حظر جديد في مارس 2003، ليبدأ الصيد غير القانوني مرة أخرى مما أدى إلى استنزاف شديد في مخزون خيار البحر.

A Flourish chart

A Flourish chart

A Flourish chart

فلاح البحر الحقيقي

يعود الدكتور محمود عبد الراضي دار، مدير المعهد القومي لعلوم البحار بالبحر الأحمر للحديث مرة أخرى، مؤكدا أن الموجود حاليا من خيار البحر في البحر الأحمر لا يمثل 1% مما كان موجودا في في بداية الألفينات، موضحا أن خيار البحر أصبح تجارة شائعة وتعرض لحملات كبيرة من الصيد الجائر ما تسبب في تناقصه لدرجة الانقراض. 

وأضاف في تصريحات خاصة، أن المعهد القومي لعلوم البحار رصد عمليات صيد ما يقرب من 10 مليون حيوان من خيار البحر، رغم تحرير مئات القضايا والمحاصر ضد الصيادين لكن لم يكن لذلك أي نتائج، موضحا أن الكميات الآن لم تعد تصلح للتجارة التي تُحقق الربح. 

ووصف دار هذا الحيوان بأنه "فلاح البحر الحقيقي" الذي يساعد على سلامة واستمرار البيئة البحرية، مؤكدا على مميزاته في دعم التنوع البيولوجي في البيئة البحرية، مضيفا أن هناك ما يقرب من  22 نوعا في البحر الأحمر، بعضها يعيش على الصخور،  وطبقات الحشائش، ووسط الشعاب المرجانية، لكن تلك التي تعيش على طبقات الرواسب المفككة من أهم أنواع خيار البحر، مؤكدا أنه موجود الآن لكن أنواع قليلة ليست بالكثافة السابقة، وأن المعهد كان يرصد 1000 حيوان في الكيلو متر مربع لكن الآن هناك 10 حيوان في الكيلو متر مربع وأحيانا أقل أو لا يوجد. 

تأثيرات خطيرة 

وتأثر التوازن البيولوجي للبيئة البحرية بالبحر الأحمر بصورة كبيرة بسبب تدمير مجمعات خيار البحر، حسب تقارير بحثية لمعهد علوم البحار بالغردقة، التي أكدت أن أبرز هذه التأثيرات هي انخفاض عمليات تقليب الرواسب الناعمة خاصة الطين والتي تُعتبر من العمليات الهامة من أجل المحافظة على التجمعات الحيوانية والنباتية التي تنمو في نطاقات المد والجزر، بالإضافة إلى أن تهديد هذه الحيوانات بالفناء بالقطع سيؤدي إلى تدمير أجزاء كبيرة من نطاقات المد والجزر.

وشملت التأثيرات حسب الدكتور محمود عبد الراضي دار تأثر درجة قلوية المياه، وانخفاض عمليات التخلص من الملوثات البترولية، حيث لوحظ أثناء التجارب المعملية أن بعض أجناس حيوان خيار البحر لها القدرة على فصل الملوثات البترولية من الماء المحيط بها وتجميعه في الحويصلات المائية. 

ولم تقتصر التأثيرات على ذلك فقط بل امتد أيضا إلى انخفاض عمليات تنقية المياه من العكارة والمحافظة على الاتزان البيئي  كالحد من انتشار الكثير من الأجناس البحرية التي تهدم أشكال الحياة البحرية الأخرى مثل نجم البحر الشوكى الذي يتغذى على النسيج الرخو للشعاب المرجانية ويؤدى إلى ابيضاضها.  

محاولات أخيرة  صعبة  

وعلى مدار أكثر من عقدين من الزمان يعمل الدكتور محمد حنفي مستشار جمعية المحافظة على البيئة فى البحر الأحمر "هيبكا"، كمسئول وباحث في دراسة حيوان خيار البحر، حيث أكد أنه في عام 2000 أصدر قرارا باعتباره مستشار محافظ البحر الأحمر وقتها، بحظر صيد خيار البحر، لكن هذا القرار لم يمنع من عمليات الصيد الجائر لدرجة أنه اختفى تماما حسب ما ذكر. 

ويرى حنفي، أن ما حدث مع خيار البحر هو أحد النماذج للاستغلال الغير مستدام للموارد البحرية الحية، موضحا أن دول جنوب شرق آسيا تكالبت عليه ما تسبب في ارتفاع أسعاره بشكل كبير وارتفاع حجم الصيد ما تسبب في اختفائه من البحر الأحمر.

 ورغم انخفاض أعداده بصورة كبيرة، إلا أن حنفي أكد أنه ما زال البعض يصطاده تهريبا لتصديره رغم إصدار قرار منع صيده وتداوله وتجارته وتصديره الذي لم يردع أحد، متسائلا "كيف يتم تصديره إلى الخارج وهو ممنوع اصطياده"، خاصة وأن آخر شحنة مصدرة منه كانت من أشهر بسيطة بحجة أن هذه الكميات مصادرة وبالتالي يُسمح بتصديرها رغم إنها من نشاط مخالف وكان يجب إعدامها. 

ويُجري حنفي أبحاثا لإعادته مرة أخرى إلى البحر الأحمر من خلال تفريخه تحت الظروف الصناعية وتربيته ثم نشره في البحر مرة أخرى وهو برنامج يتم تنفيذه في جمعية هيبكا وهناك تمنيات بتنفيذه في يوم من الأيام، موضحا أن الأزمة هي العثور على بعض العينات الأمهات التي يمكن استخدامها لتفريخها في المعمل.

هوس الصينيين وأسعاره الباهظة 

تقرير رسمي صادرة عن الهيئة اللثروة السمكية بوزارة الزراعة، أكد على أن لخيار البحر أهمية اقتصادية كبيرة في دول جنوب شرق أسيا وخاصة الصين، هونج كونج، ماليزيا وسنغافورة، إذ أنه يُستخدم كطعام احتفالي في صور مختلفة وكذلك يصنع منه الأدوية والعلاجات المختلفة كتدعيم الكلى و القلب وتقوية العظام وعلاج آلام الظهر وثالث لتقوية الرغبة الجنسية وعلاج العقم. 

وذكر التقرير هوس الصينيين أدى بهذا الحيوان إلى تعريضه للانقراض من بحر الصين والبحار المحيطة بهذا البلد الضخم، فبدأوا منذ أوائل الألفية الثانية في استيراده من دول العالم، وأتى دور مصر لتتسببت عمليات الشراء الضخمة التي مارسها الصينيون لخيار البحر في مصر في ارتفاع سعر هذا الكائن بصورة فلكية فأصبحت القطعة الواحدة من بعض أنواعه تباع بأكثر من 150 جنيها مما أدى في هذا الوقت إلى ظهور ما يمكن أن نطلق عليه (حمى خيار البحر) التي تركزت على شواطئ البحر الأحمر حيث اتجه الكثير من العمالة في مدن سواحل البحر الأحمر إلى الغوص بحثا عن الخيار.  

وشدد التقرير على أن الكثير من أصحاب رؤوس الأموال اتجهوا إلى تمويل عمليات الغوص هذه وتسبب ذلك في تناقص أنواع الخيار الموجودة في البحر الأحمر بشكل كبير، بل أن بعض الأنواع مثل "White teat" قد اختفت تقريبا من مصايد البحر الأحمر المصرية.   

ھذا التقریر نشر كجزء من مشاركة الكاتب/ة فى ورشة الصحافة العلمیة ومن خلال مشروع "الصحافة والعلوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا"، و َّ ھو أحد مشروعات معھد جوتة الممولة من قبل وزارة الخارجیة الألمانیة.

 

أبرز أنواع خيار البحر بالبحر الأحمر