طوق الحرير.. قصة قصيرة لـ"لما حاتم حاج محمد"
لم أفكر كثيراً حين عرض علي رئيس قسم التوليد في المشفى الذي أعمل فيه أن ألعب دور الأم البديلة لزوجة تعاني تشوهاً خلقياً في الرحم، أعلم أن الأمر كان معقداً نوعاً ما، فأنا لست غريبة في بلدٍ غريب، أنا لي أهل وجيران وزملاء عمل، ولكن المعضلة الأكبر كانت في كيفية إخفاء هذا الحمل عن والديّ تحديداً، شرحت الأمر للطبيب، أخبرني بأنه سيمنحني طلباً للالتحاق بدورة متخصصة في أمور القبالة وأن مدتها أربعة أشهر في مدينةٍ أخرى بينما سأمضي المدة في شقة سوف تُستأجر خصيصاً لي، سيتم تأمين الطعام والشراب وتوفير خادمة على دراية جيدة بالأمور الطبية حتى أتجنب عناء الأعباء المنزلية من جهة و لتقوم بمتابعة الحمل و التواصل مع الطبيب بما يلزم من جهة أخرى. كنت أعلم جيداً السبب الذي جعل الطبيب يختارني تحديداً لهذا الدور، هو السبب نفسه الذي جعل أبي يمنحني ثقة مطلقة دون التفات لمدى الأخلاق التي أتحلى بها، كان شعري الذي يشبه كومة من القش تعلو رأسي وأسناني التي ضاق بها فكي فتعالت على بعضها وتدافعت، دافعة بالمقابل شفتي للأمام بشكلٍ مثيرٍ للضحك.. بعضاً من أسباب هذه الثقة، سمعت أمي مرة تحدثه بقلقها على مستقبلي وبأنني أشبه المسطرة ولا مقوم من مقومات الأنوثة يتحلى بها جسدي، لا صدر يندفع للأمام ولا وركين ينحنيان ليشكلا جسداً أنثوياً ولو بنسبةٍ قليلة، لا أرداف ولا أفخاذ ممتلئة، عدا نظارتي السميكة التي تجعل عينيَّ كحبتي سمسم تضيعان على وجهي.. لم يثق بي أبي لذاتي بقدر ما كانت ثقته بأنني لن أثير إعجاب أحدهم.. فلا خوف علي منهم، وأظن أن هذا هو السبب نفسه الذي منح الطبيب الجرأة ليطلب مني أن ألعب دور أم بديلة، ربما ظنه أنني لن أكون أما حقيقية في يوم من الأيام. وافقت مقابل المبلغ المعروض علي، إنجاب طفل ليس لي لم يكن بالأمر الصعب، ربما لن يكون لي طفلٌ يوماً ما، كما أن الطبيب أبلغني أنه سيعيد غشاء البكارة كما كان، أعلم أنه قالها كجملة اعتراضية سريعة كأنه على ثقة أنه لن يلزم، حيث أعتقد -كما يعتقد هو- أن ليس هناك من سيفضه يوماً.
قال الطبيب إنه سيتمم التلقيح في المختبر، ثم سيحقنه حقناً في جسدي، تمنيت لو أنه طلب من الرجل مشاركتي الفراش لحين حدوث الحمل، لأجرب هذا الشعور الذي يدفع الفتيات لأن يجازفن بسمعتهن وأهلهن وحياتهن من أجل هذه المتعة، لو أنه أباح له لمس جسدي ومعاشرتي لأشعر بنشوة كوني أنثى، لكن ذلك لم يحدث.
حقن الطبيب البويضات الملقحة فيّ و طلب مني الراحة، منحني إجازة من العمل وأمرني أن أطيل المكوث في السرير متعللة بأي مرض، كان الأمر في غاية الروعة، شعور أجربه لأول مرة في حياتي، أحدهم يهتم بك ولو كان الدافع لذلك ليس لذاتك، أحدهم يطمئن عليك باستمرار، أحدهم قلق عليك.. يا االله كم هذا جميل. والأكثر جمالاً حين بدأت بطني بالتكور وبدأ الطفل بالنمو، روحٌ داخل جسدي تستمد حياتها مني.. من دمي، هذا الذي لا يعرف سواي و لا يشعر إلا بي، هذا الذي ينكر أبويه الحقيقين الآن و يطمئنه فقط صوت دقات قلبي تتردد في مسامعه، هذا الذي لا يدرك أي شيء في الوجود غيري، هو لا يهتم لجمال أمه وقوامها الرشيق، لا يهتم لوسامة أبيه ومكانته المرموقة، لا يهتم لشكلي ولا لنحولي ولا فوضوية ملامحي.. هو يحتاجني أنا فقط. لم أتخيل للحظة أن أحبه كل هذا الحب، كم تمنيت لو أنه لي، لو انه طفلي أنا بغض النظر عمن سيكون والده، كنت أتخيل اللحظة التي سألده بها ثم تأخذه أمه بعيداً، لن أقبله ولن أضمه، لن ألاعبه وأراقبه وهو يكبر ويكبر أمامي، لن أسهر لأعتني به في مرضه ولن أساعده في دروسه ليصبح طبيباً أو مهندساً، كنت أتساءل هل سيخبو هذا الشوق الذي كبر في وهو ما زال كتلةً من لحم تنمو في داخلي؟ أم أن هذا الشوق سيتمدد ويصبح حبلاً يخنقني كلما مر الوقت وضمرت بطني بعد أن تفرغ من حمولتها؟.
كانت الأفكار تتقاذفني في كل اتجاه كلما اقترب موعد الولادة، تطحن رأسي طحناً، أفكر لو أنني أطلب أن أعمل لدى هذه الأسرة لرعاية الطفل، و لكن ماذا لو رفضا؟ سيكبر شعورٌ بالحنق و التعاسة داخلي و يزيد من حزني، ماذا لو أنهما وافقا و رأيتهما يسيئان معاملته، لن يشعرا به كما شعرت به أنا، كما منحته دمي وأنفاسي وقلبي، ألهذا حرم الله عقوق الوالدين؟ كثرة ما تتعلق الأم بابنها و عليه سيكون الألم أضعافاً في حال قسوته عليها؟ بقيت فريسة لكل هذه الهلاوس حتى بلغت الشهر التاسع، حين هاتفني مدير القسم طالباً مني الحضور لعيادته الخاصة في تمام السادسة مساء لإجراء بعض الفحوصات و استلام نصف المبلغ المتفق عليه، و النصف الآخر بعد أن ألد. كان مبلغاً ضخماً مقارنةً بالراتب الذي أحصل عليه نهاية الشهر بعد طول عناء وسهر وتعب، لم يكن ينقص هذه العائلة سوى هذا الطفل، بينما كان ينقصني كل شيء سوى هذا الطفل أيضاً.
في الموعد المحدد كانوا بانتظاري، نعم.. كنت أعلم أنهم جميعهم كانوا بانتظاري بينما كنت أنا أجلس باسترخاء في مقعدي في القطار المتجه لأقصى الشمال تاركة كل هذا العالم من خلفي، مغمضة عيني و أنا أتحسس بطني بنشوة غامرة، وأضع بجانبي حقيبةً صغيرة فيها كل ما يلزم هذا الحلم الجميل القادم.
لما حاتم حاج محمد - من فلسطين