في عيد الأم.. كيف صورها غسان كنفاني في روايته "أم سعد"
تحل اليوم ذكرى عيد الأم التي توافق 21 مارس من كل عام، وبهذه المناسبة نستعرض كيف رسم الكاتب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني شخصية الأم في روايته أم سعد.
في رواية "أم سعد"، حسب الباحثة غدير رضوان طوطح، "في كتاب المرأة في روايات سحر خليفة" نجد شخصية الأم هي "المرأة الكادحة في مخيم اللاجئين"، وهي تقتصر على بلورة شخصية نسوية وحيدة رئيسة هي شخصية "أم سعد" التي تتجلى بصورتيها: الأم الإنسان، والأم الرمز الشامل لطبقة المخيم في المنفى، وهي في مدخل الرواية: "امرأة حقيقية"، وهي "ليست امرأة واحدة" وإنما هي "صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غاليا ثمن الهزيمة، و"هي أيضا المرأة المسحوقة، والطبقة الفلسطينية المسحوقة في المخيم، وبالتالي فهي الرمز الشامل للكفاح غير اليائس، وللثقافة الوطنية المتأصلة في التحمل والصبر.
وبذلك تعد "أم سعد" في الرواية الفلسطينية المحور الرمزي؛ في كونها "مجاز الزمن الفلسطيني الناهض. وهي ليست مجازا للمرأة فحسب، بل مجازا تتكشف في شبكته الرمزية كل القيم الروحية والخلقية للشعب الفلسطيني". وهي في الرواية امرأة كهلة مليئة بالخصائص الإنسانية التي عمقت صلتها بالأرض المستلَبة منها عنوة في نكبة 1948 ، فعاشت لاجئة في المخيم بلبنان، لكنهما لم تفقد صبرها، خاصة بعد هزيمة 1967 التي أوجدت شريحة ثقافية يائسة، فهي تأمل دوما أن ترجع إلى وطنها وأرضها، معلقة أملها على الفدائيين، ومشككة بالأنظمة العربية وجيوشها.
وبين "أم سعد" والأرض علاقة حميمة، فهي: "قوية كما لا يستطيع الصخر"، صبورة "كما لا يطيق الصبر" وأنها دومًا "مثل شيء ينبثق من رحم الأرض". تتفجر دموعها "مثلما تتفجر الأرض بالنبع المنتظر منذ أول الأبد"، ولها جبين لونه التراب يكشف قصة الهزيم "وساعدها الأسمر القوي... يشبه لون الأرض.
قصة الهزيمة كلها التي لخصتها بقولها "بدأت الحرب بالراديو وانتهت بالراديو"، ونهارها "صحراء قاحلة من التعب المضني" تشغله في خدمة البيوت من أجل لقمة العيش المعجونة بالذل. تحمل ُأم سعد مسؤولية الهزيمة للواقع العربي كله، ابتداء من المختار الذي يريد من الفدائيين أن يوقعوا إقرارا يكونون بموجبه "أوادم"، ومرورا بالأنظمة العسكرية التي فشلت في المعركة، وانتهاء بالراوي المثقف اليائس الذي تصفه أم سعد بأنه محبوس، في ظل غياب المقاومة التي تعني التوقيع على إقرار "أوادم": "كلكم وقعتم هذه الأوراق بطريقة أو بُأخرى، ومع ذلك فأنتم محبوسون، فالمخيم والمنفى وأية حياة خارج الوطن هي حياة ذل وحبس في تصور هذه البطلة، والخروج من هذا الحبس هو فقط التمرد على خيمة الذل عن طريق الانتماء إلى خيمة الثورة.
يلتحق ابنها سعد في نهاية المطاف بالفدائيين، فتعيش أم سعد حميمية المشاعر الإنسانية والوطنية الصادقة، المتعبة في الهزيمة والمنفى التي جعلت عمرها "عشر مرات في التعب والعمل كي تنتزع لقمتها النظيفة ولقم أولادها"، فهي لم تعد تؤمن إلا بالكفاح من أجل العيش بشرف، تفرح بسعد فدائيا، وقد ربته مثلما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية"، وقدمته للثورة آملة أن تعود من خلاله إلى فلسطين: "أريد أن أعيش حتى أراها، لا أريد أن أموت هنا، في الوحل ووسخ المطابخ""
فالشيء الذي يخفف بؤسها هو آمالها المتعلقة بالفدائيين، وما تزرعه في الحياة من أفكار الأمل والصمود، تتعمق شخصية أم سعد من خلل تفاعلها مع ثلاث حكايات، تعتبرها أنماطا ذكورية مضادة للثورة والطبقة الكادحة، وهي: نمط الثوري الانتهازي الخائن (عبد الولي) ونمط الجهاز الأمني العربي (الأفندي) ونمط البرجوازية المستغلة (صاحب العمارة) كما أنها أدانت المثقفين في كثير من المواقع، كما أدانت زوجها أبو سعد، لنجد الرواية احتفالية بالأم/الثورة (أم/سعد).
فعبد الولي خان الناس في عهد الإنجليز، وهو المسؤول عن قتل المناضل "فضل" لأنه قال ساخرا أمام الناس الذين صفقوا لعبد الولي: "أنا الذي تمزقت قدماه، وهذا الذي تصفقون له؟".
أما صاحب العمارة، فقد طرد عاملة النظافة، لأنها تتقاضى سبع ليرات، ووظف أم سعد مكانها بخمس ليرات، فعندما علمت تركت العمل، لأنها لا تريد للبرجوازية أن تنتصر على الطبقة الفقيرة: "يريدون ضربنا ببعضنا، نحن "المشّحرين" كي يربحوا ليرتين.
أما مخبر السلطة فتدينه أم سعد لتعقبه سعدا، ولكثرة تعليقاته على التغيرات التي تحدث في حياتها، مثل تغير حجابها من حزمة قماش إلى رصاصة مدفع رشاش، بعد أن اختبرت حجاب القماش عشرات السنين بل جدوى: "ظللنا فقراء، وظللنا نهترئ بالشغل"، فهي تريد أن توصلنا إلى أن الحجاب الحقيقي هو الكفاح المسلح لا غير.
ويقدم غسان كنفاني في نهاية الرواية التحول الإيجابي في حياة أم سعد والمخيم بسبب الانتماء إلى الكفاح المسلح "الاختيار النهائي من أجل المستقبل والوطن، كما نتعرف في نهاية الرواية على شخصية أبي سعد التي أغفلت، فاللغة السلبية التي رسمت له كانت بسبب معاناته من الفقر والقهر الذي تصفه أم سعد بقولها: "كان أبو سعد مدعوسا بالفقر، ومدعوسا بكرت الإعاشة، ومدعوسا تحت سقف الزينكو، ومدعوسا تحت بسطار الدولة "".
إذا بسبب كل هذا "الدعس" في حياته، نجد أنه يدعس أم سعد بوصفها الأنثى/الضحية.
ولكن أبا سعد تغير كليا بعد أن التحق ابناه سعد وسعيد بالفدائيين، فأصبح مرحا لينا، يشد ُأم سعد إليه بحنان قائلا: "هذه المرأة تلد الولد فيصيرون فدائيين، هي تخلف وفلسطين تأخذ". وصار يمشي في المخيم "مثل الديك، لا يترك بارودة على كتف شاب يمرق من جانبه إلا ويطبطب عليها، كأن بارودته القديمة كانت مسروقة ولقاها".
نلحظ أن هناك تغيرات ثورية إيجابية توردها الرواية، حتى إن ُأم سعد نفسها تتحول إلى ُأم ُأخرى داخل فلسطين، تنقذ سعدا ورفاقه من حصار صهيوني كاد أن يقتلهم جوعا وعطش نتوصل إلى أن غسان كنفاني لم يخلق هذه الشخصية النسوية، لأنها موجودة فعلا في الواقع، لكنه استطاع "أن يرتقي بالبطولة النسوية في هذه الرواية إلى مرتبة رفيعة"، وهي مرتبة المرأة الرمز الشامل للثورة، والأم المثالية في تفانيها وقدرتها على النتاج، وبذلك تعد "أم سعد" النموذج المثالي الذي رسمه كنفاني، والأم كما أوضحنا هي النموذج الأكثر فاعلية واقعا ورمزا، ومن هذا النموذج تكتسب المرأة قدسيتها واقعا ورمزا، ومن هذا النموذج تكتسب المرأة قدسيتها في الوعي الذكوري.