عذرًا يا أمي لم نُمهد لكِ الطريق.. صرخات من حادث قطاري سوهاج
الكل يتخذ جلسته الطبيعية على المقاعد داخل القطار المميز "قطار الغلابة" في اتجاههم لقاهرة المعز، الكل منهمك في التفكير، تنقلهم وسيلة واحدة لكن تفرقهم أمورُ الحياة، لحظة واحدة ولسبب مجهول كانت كافية بقلب كل الأحلام على رؤوس أصحابها، الكل يبحث عن النجاة وسط صرخات سيدات وأطفال القطار، أصبح ثلاث عربات من القطار ممتلئة بالجثث والمصابين، وسط دماء، واستغاثات الملهوفين، فجأة أصبح المشهد للضحايا مأساويا لم تستطع الأذهان أن تدرك شيئا، فيما أصبح المشهد للاآخرين مليئا بالوجع والألم في قلوب جميع المصريين.
بقبلات وأحضان دافئة، ترك ركاب قطار الغلابة أسرهم وذويهم، بحثا عن حال أفضل، لكن القدر ألقى عباءته السوداء على الركاب الذين حملوا أحلامهم في حقائبهم، واستقلوا القطار متجهين كلٌ إلى سبيله، لتنتهي رحلتهم، عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا بقرية الصوامعة مركز طهطا سوهاج، عندما اصطدم بهم قطار 2011 الأسباني، وعندها تحولت رحلتهم إلى مأساة وجرح في جوف الصعيد.
تحرك قطار 157 المميز من محطة الأقصر الساعة 7 صباحا، متجه إلى الإسكندرية، ليصل محطة طهطا الساعة 12 ظهرا، وخلفه قطار 2011 المتحرك من محطة أسوان، عندما أشارت عقارب الساعة إلى الساعة 12 ظهرا، اصطدم القطار الإسباني بالقطار المميز من الخلف بقرية الصوامعة التابعة لمركز طهطا محافظة سوهاج، بعدها تحول لمشهد لم يدركه خيال أحد، وكأنه فيلم سينمائي مرعب، الكل يهرول جثث هنا وجثث هناك وأشلاء متناثرة وسط نزيف من الدماء، وصرخات السيدات اللاتي أفزعت قلوب المصريين، والتي كان أبرزها: "طلعني ياولدى.. ساعدني ياولدي.. محمود مات.. حجاج مات.. صحابي فين مش لاقيهم".
"لو تعثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر"؟ قلوبنا تذوب حسرة عندما نسمع الاستغاثات عبر مواقع التواصل، لسيدة تطلب النجدة والمساعدة "خد بأيدي يا ولدي"، لا يخفى على أحد أن ملف النقل بمصر وخاصة خط الصعيد يحتاج إلى هيكلة كاملة، حتى نوقف الدماء التي تنزف على القطبان كل يوم، حادث اليوم أشبه بالبارحة، ففي عام 2002، قبل ساعات قليلة من صلاة عيد الأضحى، كان القطار 832 محملا بأجساد البهجة المتوقة للاحتفال بالعيد وسط أهاليهم بصعيد مصر، ومع دقات الثانية صباحا، كانت النار قد التهمت 7 عربات دفعة واحدة، عند منطقة البرغوثي بالعياط.
بين دموع الهجر ومشاهد الموت تهيم على وجهها في الأرض، السماء على بعدها واتساعها تطبق على صدرها، والأرض بما رحبت ضيقة على الأم الخمسينية بعدما طردها ابنها، لتغضب عليه وتترك لها المنزل والمحافظة بأكملها وتتجه، إلى أولياء الله الصالحين بالسيدة زينب، استقلت السيدة سمرة صاحبة جملة "طلعني ياولدى" والدموع والحسرة لم تفارق وجهها الأسمر، إلا عند وقوع حادث قطاري سوهاج، الذي أنقذها من التفكير في قسوة ابنها العاق الذي طردها من المنزل دون رحمة، ليأخذها في مشهد سينمائي مرعب وهنا تدخلت العناية الإلهية وأنقذت السيدة من بين الحديد المتطابق لنشاهدها كلنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي تستغيث "طلعني ياولدى" الجملة الذي نزلت علينا كالصاعقة.
العادات المصرية الأصيلة المترسخة في واجدن الصعيد لم تغب في حادث قطاري سوهاج، حيث سطر الأهالى أروع المشاهد البطولية، ورأينا الأهالي يتوافدون على المستشفيات في طوابير متراصة، الكل ينتظر دوره، دون كلل ولاملل للتبرع بالدماء لأجل المصابين، وفتحوا منازلهم لأسر المصابين والمغتربين، كما شارك أصحاب المطاعم والمحالات في تقديم الوجبات بالمجان.