الثلاثاء 05 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الأكتاف.. قصة قصيرة لصفاء كرار

صفاء كرار
ثقافة
صفاء كرار
السبت 03/أبريل/2021 - 12:09 ص

حدث هذا في أحد أيام الصيف، الرجل يسير وحقيبته على كتفه، بدا الإرهاق واضحا على وجهه، جبينه يتصبب عرقا.

إن الموظفين يتمتعون بقدرة تحمّل عالية، فهم يرتدون مثل هذه الملابس الرسمية كل يوم مهما كان الجو حارا. الساعة تشير للخامسة، لابد أنه خرج للتو من عمله. كان كتفه مثقلاً ولكن ليست الحقيبة ما يثقله، لمحة واحدة إليه تكفي لتعرف أنه يحمل شيئا آخر غير مرئي أكثر ثقلا وأشد وطئا من مجرد حقيبة. 

ربما افترضت أنه سيقصد أحد المقاهي وسيطلب قهوة سادة بينما يشتكي من مديره لشخص ما يلتقيه هناك. ولكنه فعل غير ذلك، لقد اتجه إلي! وتبادلنا النظرات لثوان قبل أن يقول: "عبوة حليب بالشوكولاتة من فضلك".

صمتّ لفترة قبل أن أتذكر أني أعمل جزئيا في هذا المحل الصغير! يبدو أنني لن أتخلص من عادة الشرود والنسيان مطلقا.

"عذرا.." قال الرجل "لقد طلبت عبوة الحليب بالشوكولاتة"

فكرت في أنه سيشتريها لأبنائه، كان يبدو في مطلع الثلاثينات أو ربما نهاية العشرينات كأدنى حد

"نسيت أن أقول، أريد الحجم الصغير"

قام بالدفع بعدما قدمت له ما طلب، كنت أنتظر أن يغادر ولكنه توقف قليلا وأخرج القشة التي كان ملتصقا بجانب العبوه وأدخله في الثقب المخصص وأخذ يمتص ما فيها مستمتعا بطعمها الحلو.

ألا يعلم هذا الرجل أنه أكبر من أن يشرب هذا؟ على الأقل، ألا يخجل من قوله 'امممم' تعبيرا عن اللذة كالأطفال؟

امتص الرجل كل ما في العبوة ورماها بالسلة الموجودة عند مدخل المحل.

كنت لا أزال متفاجئة عندما قال: "انت ترينني الآن كأحمق، أو ربما تقولين أنني غير ناضج كفاية ، ولكن هذا جيد بالنسبة لي، فأنا أعتبر صفة الحمق وعدم النضج مدحا"

كنت أرغب بسماع المزيد منه فسألته "لماذا؟"

"لأنني أريد ذلك، أريد أن أكون أحمق يقوم بكل فكرة عابرة تمر بباله، أن أكون طفلا يستمتع بالأمور التي يحبها. بل أريد لو أننا جميعا كنا مجموعة من الأطفال البريئين والأنانيين نفعل الأمور التي تسعدنا، نجرح بعضنا احيانا ثم سرعان ما ننسى، نتشارك خبراتنا التي لا تتعدى بضعة معلومات حول الحيوانات وكيفية تسلق الأشجار، بينما تبدو الأفعال صحيحة بالنسبة لنا. ولكن هذا مستحيل، فنحن نعيش في نظام ممل، يولد الواحد منا إنسانا فتجعله الحكومة مواطنا، ويجعله القانون مدنيا، ثم يكبر قليلا فيصبح تلميذا، ثم يتطور لطالب، ثم عامل، ثم متقاعد مريض ينتظر موته، يمكن جمع كل هذه الحالات في كلمة واحدة: إنه بكل بساطة 'عبد' ربما أيضا 'أسير'، المهم ليس 'إنسانا'. 

حين يستيقظ الموظف فإنه يعد نفسه مسرعا للعمل حيث يقضي معظم يومه ليعود في المساء مرهقا وهو يفكر في عمله مجددا. أليست هذه عبودية؟ ولكن إن وجدت لحظة واحدة من بين أوقات عبوديتي أتصرف فيها كما أريد، أتناول فيها الحلوى، وأغني بعض المقطوعات السخيفة، وأقرأ القصص الخيالية، فهذا كاف بالنسبة لي، بل أكثر من كاف. لذا لا يهمني ايتها الآنسة أن تفكري بأني تافه، فأنا أرى التفاهة لا تختلف عن الحرية في خضم هذه الحياة. 

لا أريد أن أكون من الذين يلعنون العالم لأنهم يعانون، فأنا إن أحسست بالرتابة، لن ألعن سوى نفسي لأني خضعت بكل سهولة للملل الذي يفرضه النظام، لذا سأحاربه بالاستمتاع بالحياة رغم أنفه، وبعيش عمري لحظة بلحظة. وفي النهاية، الشيء الوحيد الذي سيتبقى لي، هو الافتخار بمثل هذه الفترات الجميلة التي عشتها"

قال هذا ثم غادر، وبمجرد خروجه، أحسست بحمل ثقيل على كتفي. هذا الوغد! لقد جعلني أحمل ما كان يثقله... لا، ليس الحقيبة، بل الشيء الآخر.

تابع مواقعنا