أصابته النكسة.. صلاح جاهين صاحب “الليلة الكبيرة” الذي رحل مُكتئبًا (صور)
“إحنا جينا نغني للناس غنينا عليهم”، هكذا انتقد جاهين فنه، البعض يعتبرها مكاشفة، وآخرون يرون الأمر جلدا للذات، فبعدما قضى فترة من الصمت عقب يوم 5 يونيو المشئوم، خرج علانية وسط رفاقه، يمزق قصاصاته القديمة، ويرفض أغاني قدمها مع مطرب الثورة، عبد الحليم حافظ، ومنها: “إحنا الشعب” و”بالأحضان” ويا “أهلا بالمعارك”، “يوم النكسة” أصاب جموع المصريين بالصدمة والاكتئاب، ومن بينهم «صلاح جاهين»، الذي قدم طيلة مشواره الفني أغاني ألهبت مشاعر المصريين، وتعبئتهم في صف ثورة يوليو، فكان يمجد ويهول، حتى وقعت الهزيمة، فأحس أنه من المتسببين فيها.
- النشأة
25 ديسمبر عام 1930، ضج منزل المستشار بهجت حلمي في حي شُبرا بالحضور في انتظار نبأ وصول ولي العهد، لكنهم وعلى غير المعتاد، لم يسمعوا صراخ الطفل، فظنوا أنه ولد ميتًا.. كان هذا المولود هو صلاح جاهين الذي قيل أن تعثر ولادته أثر في شخصيته بعد ذلك، وجعل انفعالاته أكثر من الطبيعي، فحينما يفرح تملئ البهجة قلبه ويكاد يطير، وعندما يحزن يختفي عن الأنظار، ويكتئب، ليُصبح “عود درة وحداني في غيط كمون”.
يُقال إن نشأة صلاح جاهين هي السبب في إبداعه الفني الزخم والمتنوع، حيث كان يعمل والده بالسِلك القضائي، وكان دائم التنقل بين المُحافظات.. لم يستقر الطفل في مكان واحد، فكل حياته تراحل، جاب مُحافظات مصر بين الريف والصعيد و”البندر”، واستقى من هنا ومن هناك أفكاره واعتقاداته، لذا تجده تجده متنوعًا يُعبر عن الشارع المصري كافة.
- البداية
جاهين كان يهوى الرسم حينما كان في سن المدرسة، لكن لم يسلم من عقاب والدته، التي لم ترض عن تلك الهواية، لأنها شغلته عن مُتابعة دروسه وواجباته المدرسية، لذلك اتجه لكتابة الشعر لأنه يدور داخل العقل، ولا تستطيع والدته أن تُمسك به مُتلبسًا يؤلف بعض الأشعار في عقله.
حلم جاهين كثيرًا بأن يُصبح مُمثلاً لكن هذا الحلم لم يدُم، فتلك المهنة كانت غير مرغوب فيها بذلك الوقت، وكان مصير المُمثل مُظلما، إضافة لرفض أسرته هذا المجال.. مواهب جاهين المُتعددة، سواء في الأدب والشعر والكاريكاتير، مكنته من الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، لكن والده أجبره على الخروج منها لدخول كلية الحقوق، واستكمال مسيرته في القضاء.
انصاع جاهين لرغبة والده، لكنه سرعان ما اندمج في مسرح الكلية وفرق التمثيل، ثم بدأ حياته العملية من خلال رسم الكاريكاتير في بعض الصحف والجرائد المصرية، من بينهم جريدة بنت النيل والتحرير والأهرام.
جاهين وطوال مسيرته الحافلة، كتب العديد من السيناريوهات السينمائية، من بينهم “أميرة حبي أنا وخلي بالك من زوزو وعودة الابن الضال”، كما عمل سنوات طويلة بمسرح العرائس وقدم أشهر مسرحية للعرائس وهي مسرحية “الليلة الكبيرة”.
- «وعجبي»
كلمة بل ولنقل إمضاء خاص من جاهين، اعتاد به أن يختم رباعياته الشهيرة، لتظل حتى الآن محفورة في أذهان المصريين، و”لازمة” يرددوها كلما صادفتهم غرائب الدنيا.. جاهين بدأ في استخدامها منذ عام 1959، حينما تعرض الكثير من أصدقائه للاعتقال، فكتب تلك الأبيات:
مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق
والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
عجبي
كان وقتها على موعد مع صديقه الصحفي “أحمد بهاء الدين”، وهو رئيس تحرير مجلة صباح الخير في حينه، فألقى عليه تِلك الكلمات، التي جذبت اهتمام “بهاء الدين”، فطالبه بالاستمرار في كتابة مثل هذه السطور القليلة كُل أسبوع لتُنشر في المجلة، فكانت انطلاقة مشروع “رباعيات صلاح جاهين”، التي طبعتها بعد ذلك الهيئة العامة للكتاب في كتاب واحد، وحقق وقتها مبيعات هائلة وصلت لـ125 ألف نسخة، الأمر الذي لم يحدث من قبل.
- وفاته
جاهين كان متناقضًا إلى حد ما، فكانت تنتابه حالات اكتئاب باستمرار، كما الوحي الذي يدفعه إلى الإبداع والكتابة، إلا أنه في الوقت نفسه، يعرف أصدقائه والمحيطين به خفه ظله ومرحه، حتى إن الشاعر فرانسوا باسيلي، الذي وثق حياة جاهين وصفه قائلا: «إنه كان الأكثر نشاطًا ومرحًا وحضورًا، وكان صوت مصر وصوت الجماعة في الواقع وفى الحلم معا».. إلا أن الاكتئاب لازمه حتى وفاته.
وقف يدقق في المرآة المستديرة بمنزله بالقاهرة، بعد عودته من إحدى الدول الأوروبية، حيث كان يتلقى العلاج هُناك، لم يصدق ما حلّ به بعدما فقد الكثير من وزنه، حدق كثيرا في المرآة، ثم التفت إلى المُمثل الشاب الذي كان بجواره وقال: “أنا فقدت روح الدعابة والفُكاهه أنا مش أنا”.. هذا الشاب هو الفنان شريف منير، الذي طلب منه جاهين أن يوصله بالسيارة إلى منزل سعاد حسني بالزمالك، كان هذا آخر لقاء جمعهم، ففي اليوم التالي ذهب جاهين إلى المستشفى، وظل بها خمسة أيام، قبل أن يتوفى في 21 أبريل 1986، وكانت في رفقته طيلة هذه الأيام سعاد حسني التي قالت عن رحيله «الآن مات والدي ورفيق مشواري الفني وصديقي الغالي»، رحل جاهين لكن ظلت كلماته التي قالها:
خرج ابن آدم م العدم قلت: ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه
تراب بيحيا.. وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياة