"توجس".. قصة قصيرة للكاتب فتحي نصيب
كنت سائرًا في أمان الله سارحًا في ملكوته إلى أن اصطدم بكتفي رجل أصلع يرتدي نظارة سوداء، ابتسم لي فابتسمت له، ومضى كل منا إلى حاله.
دخلت المقهى، اخترت ركنا قصيا، منحت ظهري إلى الجدار وهي عادة متأصلة في آخر نفق في أعماق اللاوعي، طلبت قهوة وشرعت بتصفح جريدة بادئًا من صفحتها الأخيرة، قافزا على صفحات المطبخ ووصفات الطعام وصفحة الحكم وتهذيب الأخلاق التي لا ينتفع بها أحد مرورًا بالرياضة والأبراج والوفيات والتهاني.. وصولاً إلى الصفحة الأولى المكرسة بالكامل بأخبار تبدأ بـ(التقى - تلقى- استقبل) والتي تجمع على أن رؤساء وملوك العالم كلهم لا شغل لهم سوى مخاطبته وطلب مشورته والاستعانة بحكمته لحل مشاكل بلدانهم الداخلية والخارجية.
لفت انتباهي مقال مترجم عن أساليب المخابرات العالمية في الحرب الباردة، حينها دخل الأصلع الذي يرتدي النظارة السوداء، اختار طاولة بالقرب مني فشعرت بتوجس، ولكنني واصلت القراءة عن أسرار (السي اّي أيه) و(الكي جي بي) وتساءلت في دخيلة نفسي: هل هذه صدفة أن يجلس بجانبي الأصلع ذو النظارة السوداء بعد حادثة الطريق؟.
قررت صباح اليوم التالي أن أغير المقهى، فاخترت واحدا آخر يقع في زاوية الشارع الموازي للمقهى السابق، جلست كالمعتاد موليا ظهري إلى الجدار وأخرجت الصحيفة، عندها دخل الأصلع بنظارته السوداء وجلس إلى طاولة بعيدة موليا ظهره لي، بدا الشك يتحول إلى يقين، ففي علم الإحصاء أن الصدفة تتحول إلى قانون إن تكررت، تساءلت: ترى كيف يتمكن من مراقبتي وأنا خلفه؟
رفعت الصحيفة لأغطي وجهي، انتهزت فرصة انشغاله بالحديث مع النادل فخرجت مسرعًا بعد أن تركت ثمن القهوة التي لم أشربها.
تكررت المصادفات: مرة في شارع جانبي، وأخرى في سوق الخضار، وثالثة رأيته أمامي في طابور أمام مخبز فانسحبت بهدوء، صرت أتلفت ورائي، وأتعمد الوقوف دقائق أمام واجهات المحلات التي تعكس صور المارة خلف ظهري.
قررت بعدها ملازمة بيتي لعدة أيام .
في عصر يوم الجمعة اخترت مقهى يبعد عدة كيلومترات عن منزلي، قصدت ركنا قصيا وما إن هممت بالجلوس حتى فاجأني الأصلع بنظارته السوداء يترك طاولته، ويأتي نحوي طالبًا مني بتذرع أن أتركه وشأنه شارحًا بتوسل أنه مواطن بسيط يحب الرئيس والحكومة ولديه أولاد.. متسائلا: لماذا تراقبونني؟ وذهب مسرعًا.