"مَكْرٌ" قصة قصيرة للكاتب عاشور زكي وهبة
في فاصل ضيّق يقع بين بيت مُتصدّع تسكنه أرملة عجوز عقيم بائسة، ومنزل شاهق بالأعمدة المُسلّحة يقطنه جيرانها المياسير، تعيش فأرة رماديّة ترعى صغارها الأيتام، بعد أن التهم ابن عرس وذووه الأب المُحتضِر من أثر طعام مسموم ألقته العجوز في الفاصل...
في هذه الليلة الشتويّة المُقمرة الباردة، بينما كان صغار الفأرة يعبثون في جحر ابن عرس البائد، وجدوا أسفل عظامه فردة قرط ذهبيّ تلمع في الظلام.
تركتهم الأمّ يلهون، ثمّ ودّعتهم مُحذّرَة ألا يتركوا الجحر لحين عودتها من جولتها الليليّة.
تسلّقت الفأرة اليافعة جدار البيت المنخفض. وصلت سريعًا إلى السطح تبحث عن شيءٍ يسير تسدّ به رمق الصغار.
ارتاعت حينما رأت هرّة شاردة تموء مواءً مُتحشرِجًا كمن أجاءها المخاض إلى السطح بحثًا عن مكمن آمن دافئ حتّى اهتدت إلى أحد أقنان الحظيرة حيث تضع الدجاجات بيضها.
اختبأت الفأرة داخل ثقب أعلى الحائط المُتهدّم خائفةً تترقب...
أصاب الدجاج الذعر، هاج وماج صائحًا يستدعي الديك الرابض فوق الحظيرة يقاوم النعاس ليُخلّصهم من هذا الغزو السافر.
ماءت القطّة وانتفشت كاشرةً عن أنيابها. هبط الديك نافشًا ريشه، وهزّ عرفه القاني مُتأهبًا لمعركة حاسمة.
استيقظت العجوز فَزعةً من فوق حصيرتها الباليّة حينما سمعت صياح دجاجاتها. أزاحت البطانيّة الوحيدة الباهتة من على جسمها الأعجف. سارت متثاقلةً إلى طاق بالحائط تحتله لمبة الكيروسين.
أمسكتها بيدها المعروقة، وبحثت في دولابها المُتهالك عن كيس بلاستيكيّ أسود مملوء بحبوب قمح وذرة مُسمّمة أهداه إليها قريبها العامل في الجمعيّة الزراعيّة بالقرية لتتخلّص من ابن عرس الذي فتك بفراخها منذ مدّة قصيرة.
صعدت الدرج الطينيّ بتؤدة حاملة سلاحها المسموم في يد؛ وبالمصباح الكيروسينيّ بيدها الأخرى، تلعن وتسبّ بنات عرس ونظيراتها الفاسدات المُفسّدات، تُحدّث نفسها بصوت مبحوح: "حتّى الحلق اللي كنت مخبياه لكفني ودفنتي سرقوا فردة منه.. الغريب إن الحرامي عنده شوية ضمير، ترك لي فردة ألبسها.. الله يكرمه على كل حال "!
اتّجهت نحو القنّ لتجد الهرّة اليافعة تحتضن هريراتها العمياوات داخل القنّ.
وضعت العجوز الكيس واللمبة فوق القن، وقبضت على مكنسة مركونة على الجدار تزجر بها القطّة المذعورة، الفارّة أعلى الحظيرة تموء كالمستجير بالله في هذه الليلة القمراء.
التقطت العجوز الهريرات بأطراف أصابعها الواحدة تلو الأخرى لتضعهم خارج الحظيرة على مرأى من أمّهم المطرودة، ثم توارت خلف حائط بارز، ولم تهبط إلا حينما تأكدت بأم عينيها من فرار القطّة بالهريرة الأخيرة.
تنفّست الفأرة الصعداء لنهاية هذا الكابوس المُريع، ورأت من مخبئها الحصين فرحة الدجاجات وزعيمهن الديك بهذا الظفر المبين الذي كفاهم شرّ القتال و... احتفلوا بالوليمة المُسمّمة التي نسيتها العجوز فوق القن.
لم تسمع العجوز صياح الديك فجرًا، ولا دبيب الدجاجات على السطح صباحًا.
وحدها كانت الفأرة حزينة على ولولة العجوز العاقر، وندبها حظّها العاثر، ودموعها تنهمر على جثث دجاجها الصريع.
نظرت الفأرة بأسًى إلى العجوز المكلومة الفقيرة المتوحدة، رأتها تلبس فردة حلق واحدة في أذنها اليمنى تشبه التي وجدها صغارها في جحر ابن عرس السارق.
ركضت الفأرة هابطةً دالفةً في الفاصل، حملت الفردة الثانيّة بأنيابها، وكرّت صاعدة الجدار لتلقيها بسعادة بالغة بين يدى المسكينة المنكوبة بوحدتها وفقرها وجهلها، عسى أن تجد ما تُكفّن به نفسها في مثواها الأخير.