لصوص الأمل
بعد التخرج في الجامعة تأتي المرحلة الأهم في حياة كل شاب، تلك المرحلة التي طالما كنا نتعجّل الوصول إليها منذ أن كُنا صِغارًا، وهي مرحلة تحقيق الذات والبحث عن فرصة عمل مُناسبة ولائقة.
وأثناء رحلة البحث عن هذا العمل قادتني الصدفة للقاء أحد الصّحافيين المغمورين، الأستاذ توفيق رِمش عينه ذو الهيئة المميزة الكاريكاتيرية، نصف وجهه يملؤه شارب كَث ولحية خفيفة، والنصف الآخر نظارة بيضاوية كبيرة جدًّا وعينان مجهدتان بالكاد يستطيع أن يفتحهما، تُعانيان من الحُمرة في أغلب الأوقات، يملؤها الغموض والريبة!! وبالطبع لقب "رِمش عينه" لقب ساخر وليس اسمه الأصلي، ربما بسبب عينيه المُغلقتين دائماً.
على أية حال، كان هذا "الرِمش عينه" كثير الحديث عن نفسه وبطولاته وجولاته في عالم الصحافة والأدب وكيف اقتنص أول حوار صحفي للمطرب المشهور صاحب العضلات المفتولة، ولماذا النجم الصاعد محمد سعد وَقتئذٍ رشحه لكِتابة السيناريو الخاص بفيلمه الأحدث الذي سيعرض خلال الشُهور القادمة – بالمُناسبة لم يتم عرض هذا الفيلم حتى الآن.. برغم مرور أكثر من عشرين عاماً على هذه القصة – وهل سيوُافق رِمش عينه على عرض الزواج المُقدم له من نجمة الجماهير أم يعيد التفكير!! لا أُخفيكم سِراً كُنت مبهوراً بحديثه بعض الشيء، لكن بداخل نفسي صوت يُهاتفني بأن هذا "الرِمش" الثرثار ليس إلا واحدًا من بائعي الوهم، ولكنه الأمل فقط ما جَعلني أتحمل حديثه النرجسي.
تم الاتفاق بشكل سريع جداً على انضمامي لكتيبة الجريدة التي يمتلكها أستاذ توفيق، وذلك كرسام كاريكاتير ومدير للتحرير الفني. حدث هذا عندما تَيَقّن بأنني أمتلك من الموهبة والأدوات ما يجعله يُحسن استثمار تلك الأدوات لصالح جريدته الصفراء التي لم يسمع عنها أحد.
جاءت المُقابلة الأولى في مقر الجريدة بعدما هاتفني أستاذ توفيق الرِمش على تليفون منزلي، واصفاً لي العنوان بالتفصيل، وبكل فخر ارتديت ملابسي، ووضعت أطيب العُطور ثم خرجت من باب المنزل مُنتظرًا بشغف أن تسألني أمي - رحمة الله عليها - إلى أين أنت ذاهب؟ حتى أجيب بكل شموخ: أنا ذاهب إلى مكتبي بالجريدة يا أمي! لكن باءت تطلعاتي بالفشل ولم تسألني أمي، حينها رجعت مرة أخرى إلى صالة المنزل، وناديت بصوت مرتفع أكاد أجزم أن الحاج رجب صاحب محل عصير القصب الكائن أول الشارع قد سمعه بكل وضوح برغم ضجيج ماكينة القصب، أنا ذاهب إلى مكتبي في الجريدة يا أمي، حينها نظرت إليّ بفرح ودعت لي أن يبعد عني "لصوص الأمل"!!
لم أستبصر وقتها أن أستاذ توفيق رِمش عينه أحد هؤلاء اللصوص، ولكن كيف نتعلم ونستزيد من الدروس الحياتية والخِبرات، أظن أن هذا لن يحدث سوى بمقابلة من هم على غِرار "رِمش عينه".
في هذه المرحلة ربما تَسود حياتنا فترة مُشوشة مُتناقضة مصحوبة بالشعور بالخوف من المستقبل والتطلع إليه في ذات الوقت، ولا مانع أيضًا من بعض الأحلام الوردية، عسى أن تكون البداية لشيء جديد أو وظيفة جديدة، أو حياة يبدأ منها تحقيق أحلامنا التي طالما حلمنا بها.
ذهبت إلى المقر حسب الوصف، وأخذت أنظر هُنا وهُناك وأبحث بعيني عن أي لافتة أو إشارة تدل على الجريدة، ربما لأن لديّ صورة ذهنية مُسبقة عن واجهات بنايات الجرائد، وذلك بسبب تدريبي السابق بقسم التحرير الفني بجريدة الأهرام في أواخر التسعينيات من القرن المُنصرم. على أية حال، فقدت الأمل وظننت أني ضللت الطريق، حتى وجدت أستاذ توفيق يخرج من باب بناية قديمة مُتهالكة مُنادياً عليَّ: أين أنت يا أحمد؟ أنا مُنتظرك ومعي مدير التحرير بالداخل.
ذهبت نحو أستاذ توفيق ومررت من باب البناية الذي أوشك على مُلامسة رأسي، هذا ما يعني بكل تأكيد أن الباب أقل من مائة وسبعون سنتيمتر!! وجدت في المقابل غُرفة باللون الأسمنتي خالية من أي دِهانات، كرسي خشبي ومِنضدة يكسوها مفرش باللون الأخضر، وأكوام من الجرائد المُلقاة على الأرض، حينها رحب بي قائلاً : مرحباً بك أيها الفنان المُبدع في مقر الجريدة، وفي مكتبي المتواضع!! أومأت برأسي وابتسمت، وشعرت بأحساسيس تُشبه ارتطام طائرة بوينج 737 بقاع المُحيط الأطلسي في الليلة الـ366 من السنة الكبيسة! أين هي الجريدة؟ وأين هو المكتب؟ يا لهذا الحظ العاثر!! ذهبت الأحلام والأمنيات، وبدلاً من البحث عن المقر أصبحت أبحث عن المفّر، خاصة عندما عرّفني رِمش عينه بالأستاذ حسن "توليفه" مدير التحرير!! ولكن هل ثمة دهشة في ذلك الـ"توليفة "؟ في الحقيقة المدهش بحق أنني أعرف الأستاذ "توليفة" معرفة وطيدة جداً، فهو بائع الجرائد المُتجول والسجائر الفرط في القِطار الإسباني الذي أستقله بشكل أسبوعي أثناء سفري المُتكرر خلال فترة دراستي في الجامعة!!
على الفَوْر وجهت للأستاذ توفيق وابلاً من الأسئلة: أين الجريدة؟ وأين تُباع؟ وما هو دوري؟ وووو....
كانت الردود كلها مملوءة بالأكاذيب والانتصارات الوهمية لذاته وإنجازاته في عوالم الصحافة والأدب، ولأن الإنسان مخبوء تحت لسانه، ولأن هذا اللسان هو عتبة الروح، وجدتني أنفر من هذا الشخص الثِرثار الكاذب مُحاولاً الهروب من هذه الورطة، تارة بالصمت، وتارة أخرى بالنظر إلى ساعتي في إشارة مني برغبتي في الرحيل. حينها أهداني كتابه "أسرار وحكايات نجم الأغنية " والذي لا يمت بصلة بالفنان المذكور على غلاف الكتاب ولا بحكاياته ولا بأسراره، فهو عبارة عن كتاب بغِلاف برتقالي به صورة كبيرة للفنان ومن الداخل يحتوي على كلمات أغنياته في ذلك الوقت!!
وبرغم كل شيء وافقت على هذا العرض المُستغل لحماس وشغف شاب في مُقتبل العمر، لا أعلم هل الطموح أم السذاجة ما جعلني أعمل معه لفترة تجاوزت العام ونصف، لم أتقاض خلالهما أي أجر مادي، ولكن لا أنكر أن هذه التجربة عادت علي بالفائدة في نواحي أخرى من حياتي لعل أهمها هو خوض تجربة النشر الصحفي حتى لو على نطاق ضيق ومحدود. المُدهش في الأمر أن بعد مرور أكثر من عشرين عاماً وبعد انقطاعي تماماً عن أستاذ توفيق بسبب انتقالي للعيش في بلد آخر، ظهر لي حسابه الشخصي ضمن قائمة الأصدقاء المقترحين على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، ومن باب الفضول وجدتني أسارعُ بالولوج إلى صفحته الشخصية أتصفح ما بها، وكانت المفاجأة الكبرى عندما قرأت منشور له يكتب به: "انتظروني وسيناريو جديد لأحدث أفلام نجم الكوميديا محمد سعد"!!.. حينها لم أتمالك نفسي من الضحك حتى سمعتني زوجتي التي سألتني عن سبب هذا الضحك الهيستيري، لتأتي الإجابة: رحمك الله يا أمي.. "لصوص الأمل" لا يموتون أبدًا!