الثلاثاء 24 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

عوض الغباري يكتب: نجوى الذات في "خناجر الحنين إلى الغربة" لأميمة جادو

الدكتور عوض الغباري
ثقافة
الدكتور عوض الغباري
السبت 17/أبريل/2021 - 06:40 ص

الدكتورة أميمة منير جادو شخصية وضاءة، قاصة روائية شاعرة مفكرة ناقدة لها حضورها النافذ في أعماق العلم والفن والأدب، ولها الكثير من الإبداعات الأدبية والمؤلفات النقدية والأكاديمية، والمضمون التربوي – خاصة - مميز لرحلتها العامرة بالعطاء السخي في إصداراتها المتنوعة التي تربو على مائة وعشرة مؤلفات بين كتب وأبحاث ومقالات نقدية في القصة والرواية والشعر والسيرة الذاتية وغيرها إبداعيا.

 

أما علميا فلها مؤلفات في الدراسات التربوية ومنهج البحث العلمي، وبحوث المؤتمرات، والكتب النقدية الحاصلة على جوائز، ودور المرأة المبدعة، والقيم الاجتماعية المصرية، والثقافية المحلية والعربية العالمية، والفلكلور، وأدب الطفل، والقيم التربوية في الثقافة الشعبية والدراما المصرية، وعلم النفس والفكر الإسلامي وغير ذلك كثير، إلى جانب عضويتها في كثير من الهيئات الثقافية والأدبية.

 

وللدكتورة "أميمة منير جادو" رؤى ومداخل نقدية لكثير من المؤلفات الإبداعية والثقافية، وقراءات لنتاج أعلام الفكر والفن والأدب، وكثير من المتابعات للقضايا الأدبية والثقافية، وكذلك الإسهام بالكتابة عن أدب الرحلة إبداعًا ونقدًا، بالإضافة إلى كتب الأطفال، ومقالات الدوريات والصحف والمجلات، والحضور المتألق في الندوات والمحافل الثقافية والعلمية.

 

وهذا وغيره من الناحية العلمية والفكرية إضافة إلى الناحية الأدبية والإبداعية يصلنا بكاتبة مرموقة متفردة حصلت على الكثير من الجوائز، وكثير من التقدير والاحترام، خاصة ما يتعلق بشخصيتها كأستاذة جامعية لها أثرها الكبير في نفوس طلابها في مجالات تدريسها لمناهج التربية والإعلام والتعليم والحضارة الإسلامية وغيرها.

 

و"خناجر الحنين إلى الغربة" عنوان رائع لهذه القصص يُعدُّ "عتبة أولى" لها إشاراتها السيميولوجية مدخلا نفسيا للعوالم القصصية التي تمثلت في إحدى وعشرين قصة جعلتها الكاتبة "أميمة منير جادو" بعض ما عاشته أو حلمت به في صياغة سردية حافلة بقيم الفن المعبِّر عن تجارب إنسانية صادقة وعميقة. وللنصوص السردية في هذه المجموعة اتصالها بالسيرة الذاتية للكاتبة التي تناولت تلك السيرة العطرة – كذلك - في أعمال أخرى من إنتاجها الثرى الغزير.

 

 والكاتبة حريصة على توصيف أعمالها الإبداعية كوصف هذه المجموعة بالقصص التربوية، وفاء بالرسالة السامية للأدب مما تحرص عليه اتجاها أصيلا مميزا لها على مدار إبداعها. و"الغربة" في عنوان هذه المجموعة هاجس مراوغ تحن إليه الكاتبة مع عذاباته، وتصويره للصراع مع الزمن الذي تراه حاضرا ممتدا من "جدتها" إلى أسرتها التي أهدت هذا العمل إليهم.

 

والعتبة المهمة الثانية: عناوين القصص بما تحمله من المفارقة بين العمق والرشاقة؛ الألم والفرحة، فلسفة الزمن في أبعاده المختلفة؛ ماضيا وحاضرا ومستقبلا. نجد هذا في القصة الأولى "قفص عصافير"، موصولا بوجدان حزين، وألم دفين يعد "خنجرا" داميا لارتباطها بذكريات طفولتها، وحبها لجدتها لأبيها، وحرمانها من العيش معها، واضطرارها للعيش مع جدتها لأمها، وكانت قاسية عليها.

 

وسرد الكاتبة بارع الأسلوب في افتتاحها لهذه القصة بقولها: "ثلاثون عاما مضت أو أكثر، ولم تزل هذه الواقعة محفورة في الذاكرة، مرسومة في وجداني، موشومة بروحي، وكأنها بالأمس القريب". والراوية بضمير المتكلم رقيقة الإحساس، شغوفة بمراقبة العصافير.

 

والتنشئة الصالحة للطفلة، والارتباط بالأصالة المصرية، والجد في التحصيل الدراسي من القيم التربوية التي تؤصلها الساردة في ذكريات طفولتها مع جدتها، وإن كانت مضطرة للعيش معها من أجل المذاكرة والامتحانات كما أرادت أمها، مفتقرة إلى دفئها ودفء جدتها المحبوبة، ومستعيضة عن هذا الدفء بدفء المأكولات الشهية التي كانت تحبها من الفرن البلدي في بيت جدتها. 

 

استطاعت الطفلة تحقيق حلمها في اقتناء العصافير بعد أن صنعت لها قفصا فوق سطح البيت، ولكن جدتها أفسدت فرحتها بتكسيره، وكان ذلك هو الخنجر الذي أدمى قلب الطفلة التي رجعت بذاكرتها إليه بعد ثلاثين سنة لتربط بين البداية والنهاية بحرفية رامزة إلى قصدها من هذه القصة.

 

والقصة بالغة الأثر في النفس لتجسيد مشاعر الطفلة الرقيقة، وقد انكسر قلبها، وضاع حلمها، وقد برعت الكاتبة الساردة المبدعة "أميمة منير جادو" في تصوير هذه المشاعر، وهي العالمة في أصول تربية الطفل، المبدعة في أدبه.

 

واستطاعت الكاتبة تقديم هذا المزيج النادر بين قيم العلم وقيم الفن نبضًا لشخصيتها الباهرة المحلقة في فضاءات إنسانية رحبة مستنيرة.

 

وقصة "خناجر الحنين إلى الغربة التي كانت" عزف سردي يؤكد المونولوج النفسي النادر للقصة السابقة، وللمجموعة التي أخذت عنوان هذه القصة.

 

فهي امتداد لهذا الشعور بالغربة التي كانت وما زالت، كما عبرت عن ذلك في إهدائها. تعود الساردة بذاكرتها للحنين إلى الغربة حيث كانت تعمل أستاذة جامعية بالمملكة العربية السعودية، وكما شعرت بغربتها لدى جدتها، وهى في مصر، مشتاقة إلى الدفء والحنان الأسرى، فقد اشتاقت إلى تلك الشخصيات التي أحبتها في محيط عملها بالسعودية.

 

ومن ظواهر هذا الحب الخالص لتلك الشخصيات ذكرها بالاسم، والإحساس بالمرارة التي تصاحب الزمن الذي يمر دون لقاء هؤلاء الأحبة.

 

والزمن مؤثر – في هذه القصة- وغيرها، وفي الأدب عامة وهو –هنا- "خنجر" يدمى القلوب التي تجتر الماضي، وتحاول التصالح مع الحاضر، والأمل في المستقبل، وتعيش في هذا التقلب بين الرجاء والأمل.

 

وكما تفاعلت الكاتبة مع قصة "قفص عصافير" لصلتها بحياتها العلمية، وتجربتها الذاتية، فقد كانت كذلك في هذه القصة، مصوِّرة حياتها وسط طلابها وزملائها في حب وإخلاص للعمل وشوق للعودة إلى الوطن.

 

وقد جسَّدت قيم العطاء العلمي النافع للطلاب، المؤثر في عقولهم ونفوسهم طريقا إلى النجاح، كما ذكرت في هذه القصة. فما ينفع الناس يمكث في الأرض، والقيم الدينية كتقوى الله والإيمان به عنوان النجاح.

 

ثم تأتي مفارقة حزينة أخرى بين الشوق إلى العودة للعمل وإنهاء التعاقد رغم الإخلاص في العمل. إنها رحلة آمال تنكسر على صخور الواقع لا تتحملها نفس رقيقة رومانسية، ولا تتوقع هذه القسوة التي صورتها بأنها جراحات قلب وطعنات خناجر الغربة المسمومة، وبحث عن دواء لأحقاد البشر. فقد كانت الطعنة من عميدة مصرية أنهت تعاقدها، لكن الضحية تركت لوحة تذكارية تعد سلوى لأجمل ما منحته ثنائية (الغربة - الوطن) وهي الذكرى الباقية في القلب رغم البعد.

 

وتستقطر الكاتبة دموعها من حصاد رحلتها، ولكنها تستمسك بالتوازن النفسي في الصراع بين سرور الزمان وبين أحزانه.

 

وتظهر هذه الفلسفة في قصص المجموعة التي تجسد الجدل بين المتناقضات، تستدعيها من مخزون الذاكرة فتحقق التفاعل بين الفن والحياة.

 

ولا تفقد الروح الضاحكة بطابعها الفكاهي فلسفة ساخرة تعين على اجتياز الواقع المرير. 

 

وتتناول القصص ذلك التناقض بين ما يراه صاحب الضمير الحي من "مثال" وبين ما يشوب الواقع من" فساد ".

 

وتطغى رحلتها في عملها بالتدريس على اهتمامها، فتنعكس برؤى وتقنيات مختلفة تمثل "تيمة" في هذه القصص.

 

وتهتم القاصة المعلمة التربوية بالتعليم، وتحلم بأن يكون بهيجا في محيطه مبنى ومعنى، نافعا في شكله ومضمونه. وتتصور خريطة الوطن العربي تنز دما، وتئن جراحا"، معبرة عن إخلاصها وصدقها الوطني المتعاطف مع الشعب الفلسطيني المحتل.

 

وتتعمق الكاتبة شخصيات قصصها، وتحللها نفسيا كما في تصويرها لشخصية الطالب المشاغب في قصة "صفحة من حياة طالب مشاغب".

 

وترى الكاتبة ما يدور في نفس الطالب الذي لم يستطع أن يسأل أباه الفاسد عن السبب في ذلك، كما لم يستطع تقبل المعاملة السيئة لمدرس الفصل، ولم يجد القدوة الحسنة، فعبَّر عن تمرده بتسمية نفسه "عمرو بن العاص"، وانهار أثناء التحقيق معه بسبب ذلك. وعالم الطفل مسيطر على إبداع الكاتبة  في قصة "من حكايات كوكو" مصوِّرة حوارا جميلا بينها وبين طفلة أختها الذكية التي تتذرع بكثير من الحجج لتكون قريبة منها عند انشغالها بالقراءة والكتابة.

 

ويدل هذا الحوار على استشفاف الكاتبة لعالم الطفولة، وبصيرتها الثاقبة في توجيه سلوك الطفل البريء، وحنانها على هذه الطفلة مع أنها تعطلها عن عملها. وتطالعنا قصة بعنوان "آكشن" تمثل تقليد الطفل لقفزات "توم وجيري" المشهورين فأصيب في رأسه غير مدرك لخطورة ما فعل بكل براءة عصافير النهار على حد تعبير القصة.

 

وتعالج هذه القصة قضية خطيرة تطورت الآن إلى مأساة متمثلة في انتحار بعض الأبناء تقليدا للألعاب الإلكترونية الخطيرة. 

 

وتجرى بعض النصوص القصصية مجرى المذكرات الشخصية كما في قصة "ورشة عمل".

 

" ويطل موقع الورشة على النيل وهو أجمل ما في الموضوع، أن تصافح عيناك مياه النيل صباحا فتضخ التفاؤل في عروقك، والسماحة في نبضك، وتبلسم تشاؤمك وتدعوك للتجديد"، على حد التعبير الجميل للكاتبة.

 

وتتعمق هذه القصة في جو المؤتمرات، وتجسده تجسيدا دالا على خبرة الكاتبة بها، لكنها تسخر من منسق المشروع الذي يتناول إصلاح التعليم، وقد بدا متعاليا، وأطلقت عليه اسم "موهوب" والموهبة – هنا - في طريقة الوصول إلى رئاسة هذا المشروع دون كفاءة. وأطلقت على مسؤول العلاقات العامة "الوسيم" وهو شاب وسيم يتفنن في نفاق رئيس المؤتمر "الموهوب" . ويبدو أن الدور التمثيلي لهما كان وراء السخرية منهما.

 

 وتنجح الساردة في المشاهدة الذكية لحركات أعضاء المؤتمر وتبرمهم من تأخير افتتاحه ، وقد أتوا من بلاد مختلفة من شمال مصر وجنوبها، وأخذوا يتبادلون أحاديث فكاهية تساعدهم على هذا الموقف الممل.

وتطلق الساردة وصف "عصفورتي الجميلة" على ابنتها، كما أطلقت وصف "يمامتي" على ابنة أختها، لكن العصفورة في قصة بعنوان "الساندويتش" مرتبطة بالعصفورة الخضراء التي تخبر الأم بما تفعله طفلتها، كما تقول لها إذا سألتها عن الذي أخبرها بما فعلته.

 

والساردة عارفة بما يدور في ذهن الطفل البريء، وعندما كبرت الطفلة استغنت الأم عن العصفورة الخضراء واستعانت بقلب الأم، والإحساس بما يشغل الطفلة من عيونها.

أما المشكلة البريئة التي شغلت الطفلة فهي أنها لم تأكل ساندوتشها وأخفته كي لا يعطيها والدها الحقنة التي يهددها بها إذا لم تأكل خوفا عليها لضعف شهيتها إلى الطعام، وطلبت من الأم ألا تخبره . هذا هو عالم الطفولة البريء الذي يضيء إبداع "أميمة منير جادو" ممثلا شخصيتها النقية الصافية، وأمومتها الحانية. وبساطة الموضوع في قصة "سقوط القواطع الأربعة" دليل على اقتدار الساردة على تناوله بروح إنسانية شاعرة.

 

فها هي الساردة تناقش طبيب الأسنان في مشكلة أسنانها، وتصغي إلى نصائحه التي ترى أنها "ثقافة الأسنان" مع أنها لا تحب زيارة ثلاثة (الطبيب، والخياط، ومصفف الشعر)، وتلك البساطة والعفوية في التعبير عن المشاعر تكسب القصة معناها الأصيل المؤثر في المتلقي. ذلك أن الحوار الذي يدور في هذه القصة يبدو أنه الذي يحدث لكل زائر لطبيب الأسنان مما يكسب القصة "طبيعيتها" المحببة إلى النفس.

 

والساردة بارعة في استرجاع مشاهد الزمن الماضي من ربع قرن في قصة "مشوار يومي" كأنها واقع حاضر.

 

وهى ابنة ثورة يوليو/ عبد الناصر حبيب الملايين، المؤمنة بشعاراته، ومنها "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد".

وهي تحب المعري وطه حسين اللذين قهرا الظلام.

 

وأحبها مثقف كبير قام بتوصيلها ذات مرة إلى محطة الركوب إلى مدينتها من القاهرة في رحلة شقاء يومي . تستدعى قصة حبها، وترى أن الحب يصنع المعجزات ، وتمنت أن تكون داعية إسلامية. وقصص المجموعة تتفاوت طولا وقصرا، والقصيرة مثل قصة "قطيطة" وتتناول مشكلة ابن قاطع أباه، وترك البيت وعاش مع جدته لشدة توبيخ أبيه له.

 

وكانت الأم تعرف أنه ابن بار، وقد عاد إلى البيت حاملا قطة صغيرة، أحاطها برعايته. أما قصة "مشوار يومي" فهي من القصص الطويلة. ولعله مشوار الساردة الجميلة الذكية التي كانت تحظى بتشجيع أبيها لكي تصبح شخصية علمية مرموقة، ويشفق عليها الناصحون لها بالحذر من الحياة والأحياء لبراءتها والخوف عليها من الشرور.

 

تذكر عذاباتها في السكن أعلى جبل المقطم بالقاهرة لكي لا تسافر يوميا، ورحلة كفاحها مع أسرتها الصغيرة ، ومعاناتها من شدة حرارة الشمس في رحلتها اليومية إلى العمل من أعلى الجبل، وما أصابها من آلام العمود الفقري، وقد أطلقت على ذلك وغيره "عذبات الوصول". 

 

تقول : "المشوار طويل.. الشمس حارة.. الظل بعيد". وتقول: "الطيور حبيسة في أقفاصها.. تنتظر مصيرها " وكأنها تصف مشاعرها في معاناتها المعيشية وهى لا تجد وسيلة مواصلات مريحة، ولا معاملة حسنة من الناس في المواصلات العامة بزحامها الخانق، ولا راحة ولا اطمئنان مع انقضاء الزمان.

 

لقد فتر الحماس الذي ميَّز شخصيتها تحت وطأة هذه العذابات التي صورتها وهى تسير في حرارة شمس الجبل لا تستطيع ركوب سيارة أجرة مع معاناتها من وجع العظام.

 

وتصور القصة مشاهد الحياة في سوق جبل المقطم الذي يعج بالنسوة في شهر رمضان لشراء السمك الرخيص وغيره. ونرى حركة السوق ماثلة في قول الساردة : "انحناءات الأرض وبروزها، والمطالع والمنازل، والصخور والزبالة والزحام، ونداءات الباعة الصاخبة".

 

وآه من عذابات ركوب" الميكروباص" والركض وراءها، والحسرة على هذا المآل بعد الحصول على الشهادات العالية والدورات والبرامج دون حصول على شقة أو سيارة أو حياة كريمة.

 

إنها مثال المرأة المصرية المكافحة البطلة (امرأة جميلة مكافحة اتخذت من الشرف عنوانا لها، من سكان الأقاليم، لكن طموحها دفعها للعمل بالقاهرة).

 

وتتناول قصة "كنت أتمنى لو" علاقة زمالة وصداقة تنطوي على حب، أو حب ينطوي على صداقة، على حد تعبير الساردة التي تتمنى أن يكون حبيبها هو صاحب الاتصال التليفوني المجهول، وقد طال شوقها إليه بعد خلاف بينهما.

 

والقصة نابضة بمشاعر الحب الذي يصطرع بين العقل والقلب، والأم هي عالم الحب والحياة والإشراق في قصة "في داخلك يا أمي مدرستي وجامعتي وملعبي".

 

والابنة "بطة" الساردة الصغيرة الجميلة متفوقة لكنها تشكو من المدرسة والمدرسين الذين يضغطون على الطلاب لإعطائهم دروسا خصوصية، ويضايقونهم إن لم يستجيبوا.

 

وتناقش القصة هذه المشكلة وغيرها من القضايا التربوية التعليمية التي تغيب عن المدارس، وتؤثر تأثيرا نفسيا على الطلاب المتفوقين خاصة من يتمتعون بالإحساس المرهف كابنة الساردة التربوية المشرفة على مدارس منطقتها. وبينما تتحاشى الساردة إيذاء المدرسين لقصورهم في أداء واجباتهم، واستهانة بعضهم بكرامته في طلب الدروس الخصوصية تجد الأذى منهم تجاه ابنتها الحبيبة، وقد تمنت هذه الابنة أن تعود إلى بطن أمها مرة أخرى بعد أن واجهت هذه المعاملة السيئة في المدرسة.

 

والقصص، كهذه، تثير الأسف والحزن والقلق على المستقبل متمثلا في إحباط الأجيال القادمة.

 

وتبقى الأم الملاذ والأمل في تخطى الصعاب، والوصول إلى النجاح تناجيها الابنة بقولها: "ففي داخلك يا أمي سأصنع عالمي ومدرستي وجامعتي وملعبي، وسأعيش نجاحي ولهوى وفرحي... في داخلك سيكون العالم أرحب وأجمل".

 

وسيكون العالم أرحب وأجمل أيضا بالصالحين العاملين بإخلاص وتفان من المدرسين وغيرهم في كل مجال. ومن يوميات أستاذة جامعية تأتى قصة "ثمة لا غربة في نجران"، وهى أنشودة حب في مدينة نجران؛ المدينة الحالمة.. الهادئة.. المشرقة، الحبيبة إلى قلب الساردة تسترجع ذكرياتها فيها.

 

وتحظى طبيعتها الجميلة، وذكريات التدريس فيها بحنين الساردة التي تشيد بجمال الطالبات، وحسن أخلاقهن، فتذكر أيام كانت في عمرهن. إن الحنين إلى الماضي هو " تيمة القصص" صوَر نفس المبدعة، والروعة الإنسانية التي استقرت في وجدانها، ووهبتها التفاؤل الذي عوضها عما انتابها من يأس بمرور الزمن ومتناقضاته وأحزانه. ولا تشعر الساردة بالغربة في نجران؛ تلك الغربة التي اشتكت منها عبر هذه القصص.

 

و"أميمة منير جادو" كاتبة حرة تكتب ما تستشعره دون قيود تفرضها تقنيات الأنواع الأدبية.

 

إذ مذكراتها، ويومياتها، وأطراف من وقائع سيرتها الذاتية قد آلت إلى قالب قصصي قد لا تتحقق فيه مفاهيم القصة. 

 

و"الزمن" هاجس القصص وتيمته كما نؤكد، وهو الذي يجسده الفرق الشاسع بين الأمس واليوم في قصة "يوم عيدها" تقصد "عيد الأم".

 

فالفرق شاسع بين احتفالات الأبناء بعيد الأم – زمان- وبينها اليوم.

 

فقد كان الأبناء – قبل ذلك- يستعدون لهذا اليوم، ويخططون لإحضار الهدايا من مصروفهم، أما أبناء اليوم فلا يهتمون هذا الاهتمام القديم بعيد الأم.

 

وتستدعى الساردة أيامها السعيدة مع عيد الأم، والمقارنة بينها وبين حزنها على نضوب المشاعر من أبنائها في هذا اليوم.

 

هي حائرة لا تريد أن تصفهم بالعقوق، ولكنها تتحسر على حالها في عيد الأم حيث لا احتفال من الأبناء، ولا بهجة ولا سرور. لكن الله يعوضها بحب أبنائها وبناتها من طالباتها ومن الذين يعدونها الأم الروحية من المحيطين بها في رحلة الحياة في ميادين العلم والفن والأدب والثقافة من الشباب.

 

إنها "غربة" حزينة في إهاب الزمن الذي لم يعد كما كان، ومفارقة الصراع بين مشاعر الأمومة بعطائها الذي لا ينضب معينه ، وبين مشاعر الأبناء الذين لا يقدرون قيمة هذا العطاء. والتجارب الحزينة التي تدمى المشاعر تحيط بالساردة من هذه المفارقة بين الأمس واليوم، وتستدعى الإحساس بالغربة عن المشاعر الإنسانية التي تتطلع إليها فلا تجدها.

 

ويتجلى الاعتقاد الشعبي المصري في بركة الحجاب، (ورقة صغيرة على هيئة مثلث داخلها أدعية) في قصة "حجاب سبوع"، وكذلك يرتبط الاحتفال بالسبوع بالوجدان الشعبي المصري، وقراءة "قل أعوذ برب الفلق" للوقاية من الحسد، وغير ذلك من مفردات المجتمع المصري الأصيل في عاداته وتقاليده.

 

أما قصة "يوم الوداع"، فعنوانها – بطبعه الإنساني- مثير للحزن، ولتغير الحال. والوحشة وافتقاد الأنس في السكن الهادئ يطالعنا في هذه القصة، لولا ما يثيره الأطفال الأشقياء الذين يلعبون في الشارع من أصوات عالية مزعجة، وشتائم بذيئة لا تلائم المكان الارستقراطي الذي يسكنون فيه.

 

وتشير القصة إلى الطقوس السيئة التي تلف قطاع الشباب الآن، خاصة شتائمهم المتبادلة للأب والأم، وكأنها من أعراف الصداقة بينهم.

 

كذلك تشير القصة إلى العنف السائد في سلوك الشباب، واللامبالاة، وقد استدعى ذلك بعض السخرية من باب المضحكات المبكيات، وانتهى انشغال الساردة بمراقبتهم إلى احتراق الطعام الذي نسيته على النار. أما "يوم الوداع" عنوان القصة فيشير إلى عنوان أغنية ويردده هؤلاء الصبية وهم يلعبون، ولا معنى يمكن فهمه لسياقها في هذا اللهو العبثي الصبياني.

 

ومحاولة الساردة محاكاة لغة هؤلاء الصبيان مثيرة للضحك، وسخريتها من حركاتهم بالغة الدلالة على الأسى وخيبة الأمل في هذا الصنف من الشباب الفاسد.

 

ولا تخلو قصة من قصص "أميمة منير جادو" من مغزى تربوي أخلاقي تحمله صياغة فنية رائعة محببة إلى النفس بصدقها وجمالها، وأحيانا عفويتها وبساطتها.

 

وتحكى قصة "دعوة شخصية جدا" فخر الساردة بوساطتها الدبلوماسية بين هيئتين ثقة بحكمتها وذكائها وضميرها اليقظ وعدالتها ونزاهتها.

 

وترد في حيثيات الحكم عبارة جميلة هي: "هؤلاء على حق وبعض باطل، والآخرون على باطل وبعض حق "ملخصة الموقف والانسحاب من هذه المهمة الصعبة.

 

وتستدعى الأيام الخوالي أحداث قصة "راضية عنى؟" ونومها- إرهاقا وتعبا- أثناء حكيها القصص لطفلها كي ينام.

 

وتتوالى محاولات الطفل إيقاظ الأم من شد شعرها وضربها بيده البضة لكي تواصل القصة، فلا تتخلص منه إلا بعد أن تهدده بأنها ستغضب عليه، فيسكن ويسألها: ماما راضية عني؟ ، ولا ينام إلا بعد وعدها بذلك.

 

وكم هي جميلة المعاني التي تؤديها هذه القصة المؤثرة في النفس، وقصة "من المخطئ فينا" أطول قصص هذه المجموعة، وهي القصة قبل الأخيرة.

 

وتبادر الساردة بأن المخطئ هو من يرفض الجمال. ولكن الزمن – مرة أخرى ومرات- يلجئ الساردة إلى البحث في هذه البديهية، بالرغم من أنه لا خلاف على حب الجمال والنظام والنظافة وغيرها من هذه الخصال الحسنة بالنسبة لمن تربوا على هذه القيم الجميلة.

 

أما الآن فقد اختلطت الأمور، والتبس الحق بالباطل، وشكَّ المحق في نفسه وسط هذا الضلال، لكن كثيرا من الأمثال الشعبية قد تفسِّر اختلاف الأبناء في أخلاقهم سلبا وإيجابا مع أن تربيتهم الصالحة واحدة، وقد أوردت الساردة بعضها.

 

وفي القصة تؤكد الساردة أن حنان المرأة مقابل حزم الرجل مهم في تربية الأبناء.

 

وتشير إلى نزاع الأولاد لاختلافهم في الطبع، أخ وأخت في منتهى النظام والنظافة، وأخ وأخت عكس ذلك.

 

ويعلل الأبناء اختلافهم مع الماضي المفارق بتغير الزمان. والزمن – أيضا- هو الذي يجعل هذه المشاكل بين الإخوة مثار ذكرى جميلة، كما تختم الساردة بقولها: "يوما ما سيتذكرون كل هذا بفرح وتندر، وربما ببكاء على الذكريات الجميلة التي لن تعود... سيقولون بكل الصدق والفرح: إنها أجمل ما منحتنا إياها الحياة والطفولة والصبا والزمن الجميل". وتختتم الساردة هذه القصص، وهاجسها بالزمن وفعله في الإنسان أيضا، ففي قصة عنوانها: "ساعتى البيولوجية مضبوطة على العاشرة" حيث لا تستطيع الساردة التوافق مع نظام عملها الجديد بالغربة لأنها تضطر إلى الاستيقاظ مبكرا على خلاف ساعتها البيولوجية المضبوطة على العاشرة صباحا.

 

إن قصص الدكتورة "أميمة منير جادو" صورة نفسها، وهو ما يكسبها الأصالة والروح الإنسانية الصادقة، والوصول إلى قلب المتلقي وعقله، وقد أسرته هذه التجارب الذاتية بطابعها الفني الجميل، وعالمها القصصي الرائع. 

 

 

* أ. د. عوض الغباري أستاذ النقد والأدب العربي - كلية الآداب جامعة القاهرة.  

 

 

 

 

تابع مواقعنا