الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

محاكمة طه حسين

الأحد 18/أبريل/2021 - 12:19 ص

مثّل عميد الأدب العربي، د.طه حسين ظاهرة ثقافية ثورية. كان كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي صدر في إبريل من عام 1926، هو حَجَره الأول الذي ألقاه في بحيرة ثقافتنا الراكدة.

أثرى كتابه المكتبة العربية بالبحث والنقد، وسال حبرٌ كثير من التجريح والتطاول على صاحبه، وتكفيره، والثناء والتكريم والشكر، وغير ذلك من المتناقضات. 

انفض كل هذا، وبقي الكتاب.

في مستهل كتابه يقول طه حسين:

"هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقـًا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقـًا آخر سيزورّون عنه ازورارًا. ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة. وليس سرًا ما يُتحدث به إلى أكثر من مائتين. ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعـًا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخطين ولا مكترثٍ بازورار المزوَرّ. وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومـًا وشق على آخرين، فسيرضي هذا الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد" .

ما يخلص إليه الكتاب، كما يقول طه حسين، هو أن: "الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليـًا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدًا لا يمثل شيئـًا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي" .

جل ما وصل إليه طه حسين هو إنكار ما نُسِبَ إلى الحياة الجاهلية من شعر، وأثبت أن الشعر الجاهلي تم وضعه بعد الإسلام وتمت نسبته إلى الجاهليين لأسباب سياسية ودينية وعصبية قبلية، ولإثبات القبائل القصص والأساطير خاصتهم. واستدل بذلك من تاريخ اللغة العربية، فلغة عرب الجنوب الحميرية تختلف عن لغة عرب الشمال الفصحى في ألفاظها وقواعد نحوها وصرفها، فكيف ينسب شعر لشعراء من الجنوب بلغة أهل الشمال؟! .

قدَّم طه حسين خمسة مبررات لشكه في انتحال العرب للشعر بعد ظهور الإسلام، وهي: العصبية القبلية، حيث أرادت القبائل في صراعها بعد الإسلام أن تخترع لنفسها مجدًا قديمـًا، فلجأت إلى وضع أشعار نسبتها إلى الجاهليين من شعرائها، ثم الصراعات الدينية التي دفعت يهودًا ونصارى إلى وضع كثير من الشعر نسبوه إلى شعرائهم في الجاهلية، ثم الشعوبية، أي تمجيد الأصول العرقية التي ينتمي إليها من دخلوا حديثـًا في الإسلام كالفرس، وقد وضع الرواة شعرًا يمجد الماضي الفارسي على ألسنة شعراء جاهليين، تقربـًا من الوزراء الفرس الذين استوزرهم العباسيون، ثم القصّاص والرواة الذين وضعوا شعرًا تحدثوا فيه عن أمجاد قبائل بعينها طمعـًا في العطايا.

سرعان ما شكَّل خصوم طه حسين لجنتين لدراسة كتابه‏، وتقدموا يوم الاثنين ‏10‏ مايو بتقرير عنه إلى رياسة مجلس الوزراء‏، الأمر الذي دفع صاحب "في الشعر الجاهلي" إلى أن يوجه كتابـًا لمدير الجامعة بعد يومين ينكر فيه ما جاء في هذا التقرير من أنه تعمد إهانة الدين والخروج عليه وأنه يُعلِّم الإلحاد في الجامعة‏:‏ "وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته ونبيه ورسله واليوم الآخر‏.‏ وأنا الذي جاهد ما استطاع في تقوية التعليم الديني في وزارة المعارف حين كلفت بالعمل في لجنة هذا التعليم‏..‏ وأؤكد لعزتكم أن دروسي في الجامعة خلت خلوًا تامـًا من التعرض للديانات؛ لأني أعرف أن الجامعة لم تنشأ لهذا".‏

غير أن هذا الإنكار لم يقع موقع التصديق من الأزهر وعلمائه، حتى أن أحدهم كتب للأهرام يؤكد أن طه حسين فعل ذلك مدفوعـًا بحُبِّ البقاء في وظيفته‏، وأنه لولا ذلك لما حفل بما دار حول كتابه من اللغط ولما أعاره أدنى أهمية‏!‏

أكثر من ذلك، فقد وصل الأمر بأحد علماء الأزهر أن أخذ على صاحب الكتاب أنه افتتحه واختتمه "بدون أن تذكر اسم الله ولا أن تصلي على نبي المسلمين ‏(‏صلوات الله وسلامه عليه‏)‏ مرة واحدة‏ (‏وواحدة فقط‏)‏ يا دكتور خبّرني عما بقي فيك من آيات المسلمين"‏!‏

واكب ظهور "في الشعر الجاهلي" عملية الانتخابات التي لم تلبث أن أفرزت برلمان عام ‏1926‏ ذا الأغلبية الوفدية‏، وكان له موقف وأي موقف من طه حسين وكتابه‏.‏

فقد تعرض الرجل لهجمة عنيفة من أعضاء مجلس النواب‏، خاصة من الوفديين‏، وبينما لا نملك ما يدل على أنها قد تمت بتحريض من زعامة الحزب الكبير‏، فإنها على الأقل قد سكتت عنها‏، الأمر الذي أدى في النهاية إلى أزمة مع الحكومة التي كان يرأسها عدلي يكن باشا‏.

وبعد أخذٍ ورد تحت قبة البرلمان، خرجت القضية إلى أروقة القضاء‏، مما شكَّل فصلها الأخير‏.‏

تابع مواقعنا