الأحد 29 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

معركة عين جالوت.. كيف حقق المسلمون معادلة النصر الصعبة في شهر رمضان؟

د. عايدي علي جمعة
ثقافة
د. عايدي علي جمعة
الأحد 18/أبريل/2021 - 04:18 م

كانت المملكة المصرية تمر بأزمات طاحنة حينما تعرضت لخطر التتار، حيث كان الخلاف على الحكم مصدر قلق واضح، وكان الجالس على كرسي العرش هو المنصور علي بن المعز أيبك التركماني الذي قتلته زوجته شجرة الدر ثم جاء دورها على طريق الموت فقتلت هي أيضا.

وكان وجود سلطان صغير لا يعرف تدبير المملكة مصدر طمع للأمراء الذين يريدون الحكم، فقام قطز نائب السلطنة والوصي على العرش بعزل السلطان الصبي وجلس مكانه على كرسي الحكم، تحت اسم الملك المظفر قطز.

وبدأ يأخذ دوره في التصدي لجحافل التتار التي لا تعرف الرحمة، ويظهر قطز باعتباره من أشهر قادة التاريخ الإسلامي على الرغم من قصر مدة حكمه، حيث لم يكمل سوى أقل من عام واحد في الحكم.

يقول عنه ابن خلدون في كتابه  المسمى بـ"العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر": "وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال إنه ابن أخت خوارزم شاه واسمه محمود بن مودود أسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم‏.‏ حكاه النووي عن جماعة من المؤرخين".

ويصفه الإمام الذهبي في سير أعمال النبلاء بقوله: "وكان شابا أشقر وافر اللحية تام الشكل". ويقول عنه أيضا: "كان فارسا شجاعا، سائسا، ديّنا، محببا إلى الرعية".

كما يصفه ابن كثير في البداية والنهاية بقوله: "كان شجاعا بطلا كثير الخير ناصحا للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرا".

معركة عين جالوت

كانت المهمة التي يجب على قطز مواجهتها في غاية الصعوبة، فالبلاد المصرية تمر بأزمة مالية طاحنة، وسمعة التتار وحشيتهم ملأت نفوس الناس بالرعب، والمماليك أنفسهم وهم مدربون على القتال وعدته في الصراع منقسمون إلى درجة مخيفة، فالمماليك الصالحية نسبة إلى الملك الصالح أيوب منذ قتل كبيرهم أقطاي يترصدون لانتزاع مصر وقتل قطز، ومعظمهم فر هاربا من البلاد. والمماليك المعزية نسبة إلى المعز أيبك رغم كفاءتهم القتالية ربما لا يستطيعون الوقوف في وجه التتار.

ولكن كان صعود قطز إلى كرسي الحكم تغييرا حقيقيا على مستوى الصراع في الشرق الإسلامي ضد التتار.

وسريعا ما جاءت رسل هولاكو إلى قطز تحمل تهديدا ووعيدا وتطلب منه الاستسلام وتسليم مصر دون قيد أو شرط. والقارئ لرسالة هولاكو التي بعثها لقطز يدرك تماما مدى أهمية اعتماد التتار على الحرب النفسية مع خصومهم.

ومما جاء في هذه الرسالة التي أثبتها المقريزي في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك: "إنّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم،  وسلموا إلينا أمركم".  

ولكن قطز الفائق الشجاعة لم يبال بهذه الرسالة المتغطرسة، بل إنه قام بقتل الرسل وتعليق رؤوسهم على باب زويلة.

وهنا قطع قطز على المترددين أي فرصة في تجنب الحرب الشرسة مع هذا العدو شديد الشراسة.

وقد استطاع هذا القائد الفذ توحيد المماليك تحت هدف واحد لا ثاني له هو كسر التتار، كما استطاع حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، ذلك حينما جاء بكل ما يملك من مال ومجوهرات وتبرع به لتجهيز الجيش، وفعل أمراء المماليك مثله، وفرض بعض الضرائب الاستثنائية حتى تكوّن الجيش الإسلامي بصورة مرضية.

كانت الأوامر إلى العلماء والخطباء بأن تكون الخطب والدروس حول الجهاد. لقد كان لشخصية قطز المنتصر دائما في كل الحروب التي خاضها من قبل دورها الكبير في طمأنة الناس إلى إمكانية النصر على التتار.

تاريخ معركة عين جالوت

وبسياسته الفائقة راسل أمراء الأيوبيين في الشام رغم عداوتهم له كي يكونوا عونا له في حرب التتار. فانضم إليه بعضهم فعلا وقاتلوا في صفه، بل إن منهم من قاتل في صفوف التتار واتفق مع قطز على الانهزام أمامه أثناء المعركة.

وكان قرار قطز الجريء هو التحرك من مصر إلى الشام، كي تكون أرض المعركة في الشام وليست في مصر. وكانت هذه استراتيجية مختلفة يثمنها الخبراء العسكريون لأن تفوق التتار كان هائلا في حصار المدن، ولم يجرؤ أحد على مهاجمتهم، كما استفاد قطز من محاربي الشام الفارين من سيوف التتار حيث ضمهم إلى جيشه.

وتحرك إلى الصالحية في شرق مصر عازما على السير إلى الشام، وهنا رفض الأمراء المماليك السير معه هلعا من سيوف التتار ذات الشهرة العريضة في الفتك. 

فقال قطز قولته الخالدة: "يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون فيه من بيت مال المسلمين حتى سمنت رقابكم، وأنت للغزاة كارهون، وأنا متوجه للقاء التتار بنفسي، فمن اختار منكم الجهاد فليصحبني، ومن لم يختر فليرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين". ثم قال: "أنا ألقى التتار بنفسي".

وكان قد اتفق مع الأمراء الذين يوافقونه على الخروج للجهاد فانضموا إليه فلم يسع الباقون غير الخروج أيضا.

كانت خطة قطز جديدة حيث جعل مقدمة جيشه هي الاستطلاع، فقد اختار أشجع الفرسان وجعلهم تحت قيادة الأمير بيبرس صاحب الخبرة الحقيقية في فنون الحرب، والذي تسبب بصورة قوية جدا في نكبة حملة لويس التاسع في المنصورة. فهزمهم شر هزيمة.

وكانت هذه الخطة جديدة في حروب تلك العصور، لأنها جعلت مقدمة الجيش هي القوة الاستطلاعية، وما لبث بيبرس أن اشتبك مع بيدرا قائد حامية التتار في غزة، مما اضطر هذه الحامية إلى الانسحاب من غزة.

سار الجيش المصري على طريق الساحل حتى وصل إلى عكا التي كانت تحت الحكم الصليبي في ذلك الوقت، فعرض عليه أمراؤها الصليبيون المساعدة، ولكنه رفض مساعدتهم وأقسم إن تبعه فارس أو راجل منهم يريد أذى المسلمين ليميلن عليهم قبل ملاقاته التتار، وبذا استطاع قطز تحييد الصليبيين، وأصبح المسرح مهيئًا للقاء الفاصل مع القوات التترية التي لا تهزم.

في يوم الجمعة الموافق السادس والعشرين من شهر رمضان 568هـ، الثالث من سبتمير 1260 ميلادية دارت معركة عين جالوت الفاصلة.

كان قطز على علم بما حدث على بعد آلاف الأميال في قراقورم عاصمة التتار، إذ توفي منكوخان الإمبراطور التتري مما جعل هولاكو ينسحب بمعظم جيشه تاركا قائده الشهير كتبغا نوين على رأس القوات التترية في الشام.

 ولذا أخفى قطز الجيش الرئيسي الذي يقوده بنفسه خلف التلال، وجعل المقدمة التي يقودها بيبرس هي التي تظهر لكتبغا وقواته، فأراد هذا القائد التتري تدميرها معتمدا على شهرة القوات التترية التي لا تقهر. 

وبعد قتال شرس فر بيبرس بقواته متظاهرا بالهزيمة فتبعه كتبغا من أجل القضاء عليه، وهنا أطبق الجيش الإسلامي على القوات التترية، ودارت معركة لم تشهدها تلك العصور، وكان قطز يراقب القوات، وفجأة انكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة تحت الضغط التتري الذي لا يعرف الرحمة، وهنا ألقى السلطان قطز خوذته على الأرض وصاح بأعلى صوته ثلاثا "واإسلاماه" وسمعه معظم العسكر ثم انقض كصاعقة لا ترد على كتل التتار المتتابعة وصدمها صدمة عنيفة وخلفه قواته الخاصة حتى جبر الميسرة. وقد ذكر ابن كثير في كتابه البداية والنهاية في أحداث سنة ثمان وستين وخمسمائة هـجرية عن قطز: "ذكر عنه: أنه لما كان يوم المعركة بعين جالوت قتل جواده ولم يجد أحدا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب، فترجل وبقي واقفا على الأرض ثابتا، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع السلطان من القلب.

الشيخ محمد رفعت .. قيثارة السماء (فيديو)

فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها، فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل، فركب فلامه بعض الأمراء وقال: يا خوند لمَ لا تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك.

فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقا من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيع الإسلام. رحمه الله".   

لقد انهزم التتار على أرض عين جالوت وبدأوا في الفرار، ولكن قطز أمر جنوده على الفور بتتبعهم  حتى بيسان التي تبعد حوالي خمسين كيلو مترا عن عين جالوت. وهنا صف التتار مصافَ أعظم من الأول، ودارت عند بيسان معركة أشد هولا من معركة عين جالوت، وزلزل المسلمون زلزالا شديدا، فصاح قظز "واإسلاماه" ثلاثا. وقال: يا الله انصر عبدك قطز على التتار، واستطاع المسلمون هزيمة التتار هزيمة كاملة في هذه المرة، ولم يلق التتار من قبل هزيمة بهذا الثقل من قبل، حيث قتل قطز منهم مقتلة عظيمة.

وهنا نزل قطز من على فرسه ومرّغ وجهه في التراب وصلى ركعتين، وقد امتلأت أيدي جنوده بالغنائم. لقد بذل كل جندي في الجيش الإسلامي جهودا حقيقية من أجل الانتصار في عين جاولوت.

وقد قتل قائد التتار ومقدمهم كتبغا نوين في هذه المعركة الفاصلة، وأرسلت رأسه إلى القاهرة.

يقول ابن كثير في البداية والنهاية، الجزء الثالث عشرفي أحداث سنة ثمان وستين وخمسمائة: "ولما كسر الملك المظفر قطز عساكر التتار بعين جالوت ساق وراءهم ودخل دمشق في أبهة عظيمة وفرح به الناس فرحا شديدا ودعوا له دعاء عظيما". وقد أمر قطز قائده بيبرس بتتبع فلول التتار فتبعهم حتى طهر الشام منهم.

لقد كانت معركة عين جالوت نقطة فاصلة ليس في تاريخ مصر وحدها بل في تاريخ العالم كله.

وكانت هي البداية الحقيقية لسلسلة متواصلة من الأحداث التي صنعت التاريخ في ذلك العصر. ومن هنا كانت أهميتها البالغة. 

فقد كانت مصر هي آخر قلعة إسلامية أراد التتار الاستيلاء عليها، ومنها كانوا ينطلقون بسرعة فائقة وسهولة بالغة عبر شمال إفريقيا ومنها إلى أوروبا.

ولم يمض كبير وقت حتى دخل معظم التتار الإسلام، وأصبحوا يحملون رايته، ويدافعون عن قضيته.

ومن هنا تبدو وجاهة الرأي الذي يرى أن التتار رغم عنفهم الزاعق ودمويتهم المرعبة وسرعة استيلائهم على الممالك والحصون فإنهم رغم ذلك كله كانوا أقل خطرا على المسلمين من الوجود الصليبي نفسه. ويبرر الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه "عصر سلاطين المماليك" ذلك بقوله: "إن المشروع الصليبي لم يكن من الممكن أن يتحقق سوى بالقضاء على الوجود الحضاري للمسلمين، فقد كان ذلك صراعا من أجل الوجود ومن أجل الاستيلاء على الأرض تحت راية الصليب على الرغم من أن آثاره المدمرة نالت المسيحيين الأرثوذكس في البلقان وفى المنطقة العربية بشواظها الحارقة، كذلك لم يكن العنف المدمر ينقص الصليبيين الذين كانوا يتحركون بدافع من إيديولوجية دينية متعصبة تنكر على الآخر حق الوجود".

تابع مواقعنا