صراع الهويات والمعارك الصفرية
بالتزامن مع الحفل الضخم الذي نظمته مصر لنقل المومياوات من المتحف المصري إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في الفسطاط، تصاعد جدل واسع وكبير بين اتجاهات مجتمعية مختلفة حول "هوية" مصر، أو تبلور ما يمكن تسميته "صراع هوياتي" بين اتجاهات ترى مصر على أنها "فرعونية"، وأخرى تراها "إسلامية"، وثالثة تراها "عربية"، وعدنا مرة أخرى مع هذه النقاشات إلى المعارك الصفرية، والثنائيات التي دائماً ما نتقوقع في إطارها مع أي حدث يتقاطع بشكل أو بآخر مع الصراعات الوهمية التي تشتعل بين الحين والآخر، خصوصاً مع تضمن السوشيال ميديا لـ"نجوم" تتمثل شهوتهم الرئيسية في إثارة مثل هذه المعارك.
محاولة البعض حصر بلد كمصر عاصر جنسيات وثقافات وأديان وأعراق متنوعة على مدار ما يقارب الـ10 آلاف سنة، في إطار هوياتي واحد ضيق، هو ضرب من ضروب التشدد والتضييق، وتعبير عن أزمة في نمط التفكير السائد، الذي يحاول دائماً النظر إلى الجزئيات بمعزل عن الكليات، وإلى الفروع منزوعةً عن الأصول، وهو قبل كل هذا تجاوز لمفهوم "الحضاري"، الذي يمكن إذا ما وضعناه في إطاره الكلي الجامع، أن نتجاوز من خلاله مثل هذه الإشكالات والثنائيات.
فـ"الحضاري" كما تعرفه الدوائر الأكاديمية هو الخيط الناظم بين السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتاريخي والجغرافي والتربوي، وهو الرؤية التي تجمع بين الثابت والمتغير، والمادي والمعنوي، والتاريخي والمستقبلي، والفكر والواقع، والعلم والعمل، والداخلي والخارجي، والديني والدنيوي، بما يضمن تتضافر وتكامل كل هذه المعطيات لا تنافيها أو تضاربها، وبالتالي فإذا ما وظفنا نمط التفكير والنظر الكلي للأمور بالإضافة لمفهوم "الحضاري" في قضية كقضية "الانتماء" سوف نصل إلى أهمية ربط الانتماء بجذوره الثقافية، وسياقاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والتاريخية، ودوائره المتنوعة المحلية والإقليمية والإنسانية، وهو ما يجعل الإنسان المصري محصلة ونتاج تفاعل اتجاهات هوياتية عديدة ومتنوعة ثقافية ودينية وسياسية.
أسس المستشار طارق البشري – رحمه الله – في أحد الأبحاث التي كتبها بعنوان (مفهوم الانتماء ودوائره المتحاضنة) لمفهوم "دوائر الانتماء المتحاضنة / المتداخلة" موضحاً في تأصيله كيف يتواجد الإنسان – في كل مكان وزمان – في إطار شبكة من الانتماءات التي لا يلزم أن تتعارض أو تتنافى، بل إنها تتكامل وتتداخل، وضرب مثالاً بـ"فلاح قروي قليوبي مصري إفريقي عربي مسلم، شافعي المذهب الفقهي، شاذلي الطريقة الصوفية، وفدي التوجه الحزبي، المنحدر من الأسرة الفلانية، المنتمي إلى الجمعية المدنية العلانية... "كل هذه انتماءات لا تعارض بينها، ولا يصح أن يفرض انتماء منها سطوته ليلغي ما عداه، وخلصت الدراسة في ضوء ذلك إلى أن الإنسان المصري العربي الإفريقي المسلم/ المسيحي، ليس مفروضاً عليه أن يتخير بين مصريته (وطنيته وجنسيته)، أو عروبته (قوميته ولسانه)، أو أفريقيته (قارته وإقليمه)، أو إسلاميته / مسيحيته (دينه)، أو انتمائه للدائرة الإنسانية والعالمية حيث فضاؤه الأرحب.
الأصل في المجتمعات الإنسانية عموماً هو تداخل دوائر انتمائها وصولاً إلى الانتماء الجامع الذي يتمثل في "الإنسانية"، وهي الحقيقة التي تجعل من الأهمية بمكان العودة لأصل مهم وهو أن المسار الحاكم لعلاقات المجتمعات الإنسانية هو التلاقي البناء، والتعايش السلمي في إطار القوانين والاتجاهات العامة الناظمة لهذه المجتمعات، لكن آفتنا الرئيسية هي أنماط التفكير التي تصر دائماً على التقوقع في إطار ثنائيات ومعادلات صفرية لا تنتهي، فإما الوطنية وإما الخيانة، وإما الكفر وإما الإيمان، وإما الإسلام وإما العروبة، إلى آخر هذه الثنائيات.