ممنوعون من الزواج فى مصر.. رحلة نسل الأغراب من عائلات الدرجة الثانية للهروب من وصمة التاريخ
البداية كما تصفها الأغاني، لمعة عين بين شخصين اعتبرا بعدها أن لا شيء قادر على التفريق بينهما، محاولةٌ فلقاءٌ فحبٌ سيّرته الأيام حتى كبر في القلب بشكل لا يجعله قادرا على الفراق بعد ذلك، كلمات العشاق التي لا تنقطع الرغبة في البقاء معا للأبد، لكن كل ذلك تقطع بين علاء وحبيبته على عتبة "نسل الأغرب".
علاء 45 عامًا، من قبيلة الهلايل بمحافظة قنا، يعمل مدرسا يرنو إليه الجميع من كل حدب في المحافظة، لمقدرته الفائقة في تبسيط العلوم بالشكل الذي ساعده هو نفسه في الحصول على الماجستير بعد حصوله على البكالوريوس من جامعة جنوب الوادي مختلفًا على أقرانه، ومع كونه أبا لطفلين وزوجة من نفس عائلته، كون في طبيعة نفسه إنه من الهلايل ما جعله يشعر بأنه من نسل الأغراب.
يقول علاء إن الأمر لا يختلف عندما تكون طفلًا لكن تعرف بذلك مع أول مرة تنزل فيها إلى السوق، تحب فتاة تقترب إلى زملائك في المدرسة كلها خطوات لا تكتمل حتى تعود لدائرتك الأولى، فالزملاء يتنمرون هذا "الجمسي جاء الجمسي راح"، الحب يبلى مع رفض أهل الفتاة والدائرة تبقى إلى الأبد تتسع لكنها مغلقة على نفسها لتصبح مع الوقت عائلة درجة ثانية.
في سن الخامسة والعشرين لم يرتكب علاء ذنبا سوى الحب، لم يخذلنا جميعا سوى العلاقات الإنسانية، أو كما قال "مهزمنيش إلا اللي حبتهم"، وعلى الرغم من كون حبيبته لم تكن لتكمل مراحل التعليم الأساسية إلا أن النهاية ليست كالبداية دائما، رفضًا قاطعا من الأسرة وابتعاد وفراق وحقيقة لا يمكن أن اتخطاها كوني من "نسل الأغراب".
من قصة علاء وغيره تجد في صعيد مصر تحديدًا انتشارا واسعا للعديد من القبائل العربية والعجمية والمجهولة الأصل، من بين هذه القبائل من حكم مصر لعشرات السنين، ومنهم من أسس دولة داخل الدولة لسنوات أخرى، بينما يبقى الأبرز تلك العائلات التى تعامل وكأنها درجة ثانية، تشترك بعض هذه القبائل فى الأصل العريق بينما يبقى حكم الزمن فى تدحدر أحفادها، والعاقبة هى منع المصاهرة وقطع النسب والنظر إلى أبنائها بنظرة دونية.
كيف بدأت القصة؟
عبد الكبير الهلالي أحد باحثي القبيلة، الذي انتهج البحث عن الحقيقة خلف كونه مضهدًا لا يُنسب منه ولا يتم مناسبته، رأى كيف لعائلة قاطعت ابنها لكونه متزوجا من عائلته، حرمت بنات من ميراثها نظرا لمخالفتها القواعد والأعراف والانتساب إليهم بدون معرفة سابقة، حيث أشار في بحث خاص له يرجع تاريخ التقليل من القبيلة إلى قيام انتفاضة الفارس الهلالى "أبوركوة "، والذى ثار على الفاطميين فى عهد المعز لدين الله ولكنه هُزم فى النهاية، الأمر الذى أدى إلى انتكاسة للهلايلة بشكل عام وإصدر قرار ضدهم بمنع الزيجة والمصاهرة معهم وهو أمر استمر حتى وقت قريب.
"التاريخ من ضمن الغنايم، بيكتبه الكسبان".. هكذا استكمل الهلالي حديثه لـ"القاهرة24"، بالإضافة إلى إطلاق بعض الحكايات التى تناقلت ولم يتبين صحتها التى تدحض فى أصل الهلايلة مستغلين فى ذلك تشتت الهلايلة وعدم تجمعهم، من ضمن هذه الحكايات أن الرسول الإسلام محمد "صلي الله عليه وسلم"، أمر قبيلة الهلايلة أن يلحقوه فى إحدى الغزوات ولكنهم تأخروا عليه فأمر عليهم بأعمال السخرة، ومن هنا جاء حديث منسوب للرسول والمستخدم ضد الهلايلة تحديدا "جم مساءً"، وتطورت الكلمة مع الوقت لتصبح "جمسًا" وهذا بالطبع ليس بالكلام المعقول فكيف يتزوج الرسول من اثنين من قبيلة الهلايل ويدعى عليهم.
أما عن أعمال السقاية التي أصبحت ملتصقة بالهلايلة في المحافظات، فإن ذلك يرجع أيضًا إلى الشتات الذى جرد الهلايلة من أملاكهم الأمر الذى جعلهم يعملون فى أى عمل حتى لو كان بسيطا، ولكن للأسف هذا الأمر ينظر إليه الصعايدة بشكل عام بشىء من الخجل أو بالأحرى يرونه عيبا.
ويتواجد الهلايلة فى مصر بمحافظتي أسوان وقنا بهما الكثافة السكانية الأكبر تليهما محافظة سوهاج ثم المنيا وأسيوط.
يُهجروا في الأرض
عائلات الأغراب، هي عائلات ذات أصول وأنساب معينة “هلايل، حلب، عبيد” في محافظات جنوب مصر "الصعيد"، تتعرض لاضطهاد مجتمعي "في الزواج، والعمل، والتحييد المجتمعي في المعاملات"، بسبب عادات وتقاليد "متوارثة" بين العائلات في الصعيد، ما دفعهم للهجرة إلى القاهرة ومحافظات وجه بحري، وسط غياب دور الجهات المسئولة والمجتمع المدني في التوعية وتوفير الحماية المجتمعية.
ما أسباب الاضطهاد الاجتماعي؟
يأتي الاضهاد الاجتماعي للعائلات المذكورة لوجود وصمة دينية واجتماعية للعائلات الثلاث، فينقل في أحد الأحاديث النبوية، أن الجد الأكبر لقبيلة الهلايل وصل في إحدى الغزوات الإسلامية متأخراً "جم مساءً" -بدلا من أن يأتي فى الصباح- فأوكل الرسول محمد الخدمة والسخرة له ولعائلته في هذا اليوم لتخلفه وتخليه عن المسلمين فى الغزوة، وذلك حسب كتب التاريخ الإسلامي "البداية والنهاية" لابن كثير، وحالات موثقة التقاها معد التحقيق، كما أن تلك الرواية والأسباب لا زالت تورث للأجيال حتى اليوم.
كما أن الوثائق والكتب التاريخية تسرد العداء الكبير بين الفاطميين و"الهلايل" بالتحديد انتقاما منهم، بسبب تأخرهم في غزوة للروسول في فترة صدر الإسلام، الأمر نفسه موكل لعائلة العبيد، والتي انتقل بعض من أبنائها من شبه الجزيرة العربية إلى مصر، إلا أن انتماءهم إلى حقبة العبيد التي كانت قبل الدين الإسلامي لازالت ملاصقة لهم، ما يجعلهم موصومون اجتماعيا في مصر.
قبيلة الحلب.. شامية الأصل غجرية النشأة
ما أن تفتح التلفاز على أحد المسلسلات التي تتناول الصعيد حتى تجد "الغازية" الراقصة اللعوب التي تبدأ قصتها من كون عائلتها غريبة عن المكان فيتم استخدامها في الموالد، الاحتفالات غير الأخلاقية جلسات الخمر والمجون، حياة آخر الليل التي صور بها التلفزيون حياة أهل الحلب، حمادة الأقصري واحد من أولئك الذين ينظر إليهم بتدنٍ فقط لكونه من الحلب عرف عن عائلته تنظيم الموالد في المحافظة ويتنقلون عبر البلدان متخذين من الأمر رزقا.
على امتداد عمره عاش حمادة ما بين الأفراح والأطراح، يستمع لـ"الكف" الفن الصعيدي الذي ربما قبيلته من اخترعته من الخلط بين السهر والترحال، فيشير إلى أن قبيلته قديمة شامية الأصل: "لم نجد المأكل والمشرب لهذا انتسبنا إلى أعمال يراها الصعيد وضيعه مثل الرقص والمغنى وغير هذا، كما أنه فى بعض الأحيان أدى اشتغال البعض من القبيلة فى مهن مثل الشحاذة والتسول إلى منع المصاهرة وقطع النسب".
ابن الحلبية نقب حمادة في المولد، وعلى كبر سنه وترعره في مكان واحد، إلا أن والدته نفسها عانت من ذلك مرارا، فتشير زينب التي تعمل في خدمة المنازل في الأوقات العادية، بينما تسرح في الموالد أثناء مناسباتها إلى أن قلة التعليم أدت بهم إلى أعمال الخدمة والشحاذة، التنمر هو الآخر يقتل الأشخاص يوميا حتى لو كانوا سائرين لكن ما باليد حيلة لقد خلقنا الله هكذا حتى الممات.
الباحث الحلبي مصطفى أحمد أشار بدوره إلى أن الحلب ينتشرون على امتداد مصر وكثير من بلدان العالم العربي، مثل سوريا وبلاد الشام إلا أن صعيد مصر يعتبر المكان الأقل تقديرًا في المعاملة معهم، ذلك لأن الصعيد يهتم كثيرا بأمور العرقيات والانتماء القبلى وغيره، بالإضافة إلى أن الشتات وعدم التجمع بين أفراد القبيلة أدى إلى سهولة الحط منها وجعلها لقمة سائغة بين الجميع وهو ما جعل أفرادها منبوذين أحيانا من قبل البعض.
أكثر ما تسبب في شهرة الحلب في مصر مغني الربابة والكف الشهير "متقال"، الذي يتفرع عن نسله عائلة كبيرة في محافظة الأقصر معروف عنها العمل في الموالد وارتياد موسيقى الربابة الشعبية في مصر، وخرج منهم نجل الراحل متقال ابنه حجازي الذي يعتبروه مصدر فخرهم الأكبر لنجاحه في عالم الغناء.
“العلم ثم العلم ثم العلم”.. هذا ما أكد عليه الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع، الذى أعاد على كلامه ثلاث مرات وأكد أن العلم هو رأس الحربة الأول فى محاربة مثل هذه العادات على المستوى الشعبي للمحاولة فى القضاء على مثل هذه الظواهر، مضيفًا أن الهجرة من الريف إلى الحضر تعد هى الآخرى حلا مناسبا، قد يؤدى إلى التغيير الاجتماعي الذي رأى أنه يتم على المدى الطويل يصل إلى عشرات السنين، ضاربًا مثال بمشكلة الزنوج فى أمريكا التي استمرت أعوامًا إلى أن حكم أمريكا رئيس أسود.
على مستوى الدولة، فإن صادق أكد أن الدولة يجب أن تقاد طول هذه الفترة من حاكم قوي مثقف جيدا يستطيع تنفيذ القانون بحزم على المخالف، الأمر الذى سيعود بالعدل على المظلوم فإن هذا كله سيؤدي إلى إتباع الشعب لهذا القائد على عكس ما أن حكم مصر رجل غير مثقف وضعيف، فإنه سينغمس فى ما يمر به المجتمع من تلك المشكلات دون محاولة طرح حلول لهذه المشكلة.
أما على مستوى منظمات المجتمع المدني، فأردف أن هذه المنظمات لايجب أن يكون دورها منفصلا عن دور الدولة بلا أن يكون مكملا لها فى ماتقوم به من ندوات توعية و دروس فى التكاتف الاجتماعي وعدم التفرقة بين البشر والاندماج، فيما بينهم من خلال العمل الجماعى و المصاهرة.
عائلات الدرجة الأولى
“السياسة هى السبب الأساسي للتفرقة بين الناس”.. هذا ما بدأ به الشيخ مبارك الرشيدي شيخ قبيلة الرشايدة التي تمتد فى الصعيد بأكمله، قائلا إن المجتمع المصري تأثر بالسياسة على مر العصور وكان لها تأثيرها فى تشكيل القوى داخله، فهناك قبائل تسببت السياسة في تهميشهم مثل الهلايل، والتى أدت خلافات ابنائها مع الدولة الفاطمية إلى وصمة اجتماعية "بالجمس" كإشارة إلى تدني عرقهم على الرغم من أنهم من أقدم القبائل العربية، ومع هذا هناك قبائل لم تكن أصلا من الداخل العربي بل تم الإتيان بها إلى الصعيد لتنافس القبائل الآخرى الكبيرة وتكون سندا للحكم فى وجه هذه القبائل.
الرشيدى أكد على أن الأصل فى الأشياء أن البشر سواء وأن الناس جميعا من تراب، إلا أن العادات والتقاليد والعرف حكمت على الناس اتباع ظواهر بعينها وترسخها مع الوقت بحيث من الصعب التخلص منها ومع هذا فإنه أكد أن التعليم والانفتاح من العوامل الأساسية للتخلص من هذه العادات السيئة، على حد قوله.
وتتعدد أشكال الاضهاد الاجتماعي لهذه العائلات مابين رفض القبائل الأخرى تقبلهم، خاصة في الصعيد الذي يتميز بالنظرة القبلية، فيتم رفض الزواج منهم أو لهم - كما يتجه أغلبهم نتيجة للرفض المجتمعي للعمل الأقل قيمة حسب النظرة المجتمعية لهذه الأعمال، فيعمل الحلب في الموالد الشعبية، بينما يعمل العبيد في سقاية الأرض والأعمال الشاقة، بينما يشتغل الهلايل في بيع الدخان والمخدرات والمقاهي الشعبية.
الحلب وهم جزء من 3 أجزاء لقبائل "الغجر" في مصر "الحلب، النور، الغجر" عندما تقول غجر، هذا يعني أنهم: “المشعوذون، اللصوص، السحرة، الكفرة”، وهي قبائل جاءت من الهند وأوربا مع بداية الدين الإسلامي، ودخلوا الإسلام إلا أنهم استمروا في أعمالهم المنافية للقيم العربية، خاصة مع اشتغالهم فالموالد والسحر والرقص وغيره.
التغريبة الكبرى
“من ترك داره اتقل مقداره”.. مثل شعبي ذائع الصيت في أرض مصر، إلا لأصحاب نسب الأغراب، فحياة محمد خلف 57 عاما من قبيلة "العبيد" لم تتحسن سوى بالرحيل عن بلدته في سوهاج مستقرا في محافظة الإسماعيلية، هناك لم يكن يسمع أحد بشكل كبير عن العبيد أو غيرهم من القبائل التي يعرف تاريخها الصعايدة ويدققون في أنسابهم بسببها.
“خلف” رحل بعد سنوات إلى المملكة العربية السعودية تمكن فيها من الحصول على قدر كافي من الأموال، وهناك لم يكن يسأله أحد على أشيئا إن تبد لهم تسؤوهم، لكن الإقامة فقط وإجراءتها هي من يسأل عنها الجميع فيما خلاف ذلك جمع ما يكفي من المال وعاد إلى الإسماعيلية وبنى منزلًا وأصبح مغربًا عن أرضه الأساسية في سوهاج.
وترتكز قبيلة العبيد فى محافظة المنيا وخصيصا مركز مطاي الذى يضم النسبة الأكبر منهم يليه سمالوط و مغاغة، ثم تأتى بعد ذلك محافظة الفيوم و بالأخص مركز أطسا بينما يرتكزون فى محافظة أسيوط فى قرية بنى شعران التابعة لمركز منفلوط، فيما فى محافظة سوهاج يرتكزون فى دار السلام أما عن محافظات الأقصر وأسوان وقنا فإنهم يعتبرون شتاتا داخلها وليس هناك مكان محدد يرتكزون فيه داخل هذه المحافظات.
تمتد القبيلة حسب “خلف” إلى عبيد ما قبل الإسلام المجموعات، التي فك الإسلام رقها، إلا أن بعضا منها استمر في ممارسة الرق ويمتلك شهادات بالفعل متوارثة من الأجيال ومع انزوائهم في أماكن بعينها في كل بلد وغلبة السمار على وجوههم، وعدم اللجوء إلى التعليم تغلب الأعمال المتدنية على أغلبهم ومن ثم تحول الأمر إلى وصمة وانضممنا مثل غيرنا لـ"نسل الأغراب".
“قلة التعليم ونقص الثقافة وغياب الوعي”.. هذا ما أكدت الدكتورة نادية رضوان أستاذ علم الاجتماع بجامعة بورسعيد أنه سببًا فى عملية التفرقة العرقية التى رأت أن لها أشكالا متعددة وتختلف حسب المكان، فيتم التفرقة على أساس العرق فى المناطق النائية مثل الأرياف والصعيد الذى قالت إنه تعرض للتهميش منذ فترة كبيرة أدت إلى تجريفه وقلة أعداد المتعلمين داخله.
أما النتائج فأكملت أن التفرقة العرقية من شأنها أن تؤدي إلى التوسع فى الإثينية والعنصرية والاهتمام بالمصلحة الخاصة على المصلحة العامة، بالإضافة إلى ضعف الانتماء للدولة والوطن مقابل زيادة الانتماء إلى العائلة، الأمر الذى من شأنه توسيع دائرة الاغتراب الأنومى الاجتماعية، وأن يتكون فى المجتمع مجتمعات منغلقة على نفسها فيؤدى إلى شرذمة المجتمع فى النهاية.