الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الكويّة الأيضية.. قصة قصيرة تربوية واقعية للدكتورة أميمة منير جادو

د. أميمة منير جادو
ثقافة
د. أميمة منير جادو
السبت 24/أبريل/2021 - 09:53 م

الهَمُّ التربوي..

الهَمُّ التعليمي...

لماذا يشغلني هذا الهَمُّ دائمًا...؟!

ومن الهموم ما يضحك أحيانًا... يضحك حد اللذَّة.. ومن اللَّذة ما يوجع ويبكي.. بل ويدمي... كثيرة هي المواقف التي تبكينا حد الضحك.. أو تضحكنا حد الدموع... العاقل فينا من يستطيع الوقوف على حقيقة الموقف...

لست أذكر تماماً كم مرة ضحكت وبكيت في آنٍ، لكنها حدثت... لست أذكرها جميعًا.. لكن لست أدري لماذا هذا الموقف يتحدى النسيان.؟

لا أسوقه (نكتة) أو للتفكه والسخرية، ما عاذ الله... لكني لا أملك حين أذكره إلا أن أفعل فعلين في آن...

لن أقول ما الذي أفعل ولكني سأحكي لكم الموقف من مخزون الحكايات ... لعله يحدث لكم ما حدث لي:

"ذات يوم من أيام العز والعذاب التي نلتُ فيها شرف مرافقة مسئول كبير بالوزارة، كنت قد شرفت باختياري عضو لجنة متابعة عليا بوزارة التربية والتعليم في ملع التسعينات .

هكذا رافقت المسئول بإحدى دورات المتابعة الميدانية في إحدى المدارس...ولا يفوتني أن أتذكر كيف استقبلتنا إدارة المدرسة ومديرها وكيف كانت عليه القوم بالإدارة التعليمية في شرف استقبالنا (أنا والمسئول والوفد معنا)، وكيف كانت المدرسة نظيفة لدرجة أن الماء الذي غسل الأرضيات لم يجف بعد... ولدرجة أن دهانات الحائط لم تجف بعد، وألوان عبارات الترحيب ناصعة على اللافتات وبعض الجدران:( يا مرحبًا... يا مرحبًا... شرفتنا شرفتنا..) وعبارات أخرى وشعارات كلها تؤكد أن مدرستنا نظيفة وتعلم الأخلاق والعلم والدين و... و .... !

أحواض الزرع بالفناء زاهية خضراء والشتلات ناضجة نامية... قلت في نفسي: متى زرعوا كل هذا...؟ لقد كنت في زيارة لنفس المدرسة منذ أسبوعين وكتبت في تقريري السري أن المدرسة تعاني من إهمال شديد سواء بالفناء أو بقذارة المبنى والجدران ودورات المياه، ناهيك عن المقاعد الخشبية المتهالكة من أيام قوم سيدنا (نسيان)، تكدس التلاميذ في الفصول، البعض لم يجد مقاعد فجلس على الأرض...

هالتني حقيقة الحُلَّة التي ترتديها المدرسة وأناقة زيها الجديد حتى شككت في نفسي وليس في المدرسة، استأذنت منهم واختلست لنفسي بعض الدقائق خفية وبسرعة وأنا أتساءل: هل هذه هي هي مدرسة (عمر بن الخطاب الابتدائية )؟ كنت قد وصلت لباب المدرسة، رفعت رأسي وعدتُ أقرأ اللافتة المعلقة عليها، كانت اللافتة ناصعة البياض فوق السواد فبرزت الحروف البيضاء تتحداني في ثقة وتؤكد لي سوء ظني: نعم.. ها أنذا مدرسة (عمر بن الخطاب الابتدائية) (بشحمها ولحمها)! يا إلهي ماذا حدث في غضون أسبوعين؟

  قلت لنفسي: سبحان مغير الأحوال... الدنيا ما زالت بخير، وصلت لمكاني جوار المسئول أرقبه من بعيد وأتأمل ابتسامته الباردة المستفزة وهو يقول: ما شاء الله.. ما شاء الله.. وحوله التف بعض رجالات التعليم الموقرين. قلتُ في نفسي وأنا أحسن الظن طبعًا بما يجري: لله درك يا وطن! كلما كتبنا تقريرًا سريًا ورفعناه للوزارة عن.... وعن... وعن.... صمم المسئول – بعد إنذار بالطبع- أن يذهب لذات المدرسة بنفسه ويستطلع الخبر، جزاه الله كل خير.. رحماك يا زمان عمر بن الخطاب ! رمموا المدرسة كلها (المباني والمقاعد والفناء) ما علينا من هذا كله... بالطبع مررنا بالممرات النظيفة والفصول المغسولة ولوحات النشاط المعلقة على الحوائط فضلاً عن الزينات والأعلام والبالونات وكأننا في كرنفال أو عرس.... قلت في نفسي: هذه هي بهجة التعليم حقًا... هذه المناظر تسر النفوس وتشرح الصدور لتلقي الدرس وتبهج الخاطر... ما أروع مدارسنا..!

هذا عن الجانب البيئي في المدرسة والجمالي... فماذا عن الجانب التعليمي.. لابد أنه في ظل هذا المناخ سيكون لا قبل ولا بعد...

        رافقنا المسئول بابتسامته السمجة وصوته الذي يشبه نقيق الضفادع بتميز نبراته الضفدعية، ودخل إلى إحدى الفصول لمتابعة العملية التعليمية بنفسه، وكانت مُدرسة الفصل تقف في ثيابها المحجبة الوقور، تخفي الخوف والرعب خلف ابتسامتها الشاحبة المخطوفة، خيل إليّّ أني أسمع دقات قلبها تدق كطبل إفريقي... كان نموذج (الكرة الأرضية) قابعًا فوق الطاولة وخريطة العالم العربي مصلوبة على (التختة) المواجهة للطلاب تنز دمًا وتئن جراحًا... خيل إليَّ وأنا أنظر للخريطة أني أسمع أصوات إخواتنا في فلسطين والعراق ولبنان يصرخون و يستنجدون بنا في مدارسنا التي لم تزل قائمة...

        أمسك المسئول الكبير هذا النموذج التعليمي بين يديه الكريمتين وبابتسامة خالية من المشاعر الحانية سأل تلميذًا: قل يا حبيبي.. ما اسم هذه؟ أجاب الطالب الصغير بثقة: اسمها "الكوية الأيضية" يا أستاذ!

        ابتسم المسئول وانتقل إلى طالب آخر في الصف المجاور، وسأله نفس السؤال: ما اسم هذه يا ابني؟ أجاب الطالب الآخر نفس الإجابة: "الكوية الأيضية" يا أستاذ! هز الرجل رأسه، وقد تلونت ملامحه بدهشة ما، وتمشى بين صفوف التلاميذ ووقعت عيناه الذكية على تلميذ نابه وسأله: قل أنت يا حبيبي، يبدو أنك شاطر... ما رأيك فيما قاله زملاؤك... ما اسم هذه ؟ وراح يديرها حول محورها بهدوء فيستدير العالم كله أمام التلاميذ!

اندهش الولد النابه من تكرار سؤال المسئول ولكن ثقة التلميذ في إجابة زميليه وثقته في نفسه جعلته يقول بثقة: "الكوية الأيضية" سيادتك . تراجع المسئول خطوات للوراء جعلته في مقدمة الصفوف مرة أخرى وسأل بلهجة جماعية: ما اسم هذه يا حبايبي الحلوين؟ قالوا في صوت واحد جهوري كالحداء الشعبي للجيش الوطني: "الكوية الأيضية" يا أستاذ! هزني صوتهم جميعًا وحماسهم وتذكرت أطفال الحجارة، نظرت للأستاذة التي اتسع فمها عن آخره وهدأت ملامحها وبان عليها الفرح الساذج بتلاميذها...

نظر المسئول الكبير نحوها وبابتسامة غامضة سألها: ماذا تدرسين لهم يا أستاذة ؟ ازدادت ابتسامتها العبيطة اتساعًا وهي ترد بثقة مماثلة لثقة تلاميذها: " طبعًا أُديس لهم "تاييخ وجغيافيا" سيادتك..."

هكذا نطقتها بالياء وليس بالراء!! (وليس في الكلمة أي أخطاء مطبعية)    وظل فمها مفتوحًا بابتسامة بلهاء...".

 

تابع مواقعنا