متى تنتهي فتنة "تهنئة المسيحيين بعيدهم"؟!
تهنئة المسيحيين بعيدهم مسألة دين وذوق وجمال واحترام وتقدير، هذا هو رأي الأزهر الشريف وما استقر عليه الناس بفطرهم السليمة، وأي فتوى دينية تصطدم مع هذه المعاني الراقية فليست من الدين ولا الدين منها، بل هي من (الدين الموازي الجديد) الذي يتبناه المتشددون، وأي آيةٍ قرآنية أو حديث يدعوك إلى عدم تهنئة الناس بأعيادهم فلا تشكك في القرآن ولا في الحديث، بل شكك في تلك العقول الطفيلية الكئيبة المتحجرة التي ألصقت بالنص القرآني ما يدعو إلى النفور والاشمئزاز والرجعية.
في كل مناسبة يطل علينا أناس اشتغلوا بالتفاهات، وافتقدوا أدوات الفتوى، وظهروا في حلبات الفتوى قبل النضج والاكتمال، وتعلق بهم متحمسون متعصبون، ومن هؤلاء طبيب الأطفال "ياسر برهامي" الذي قال: "أعياد المشركين تتضمن تعظيمًا لعقائدهم الكفرية، فتهنئتهم بها شر مِن التهنئة على الزنا وشرب الخمر".
ومثل هذه الفتوى تحدث جوا من الاضطراب الفكري، وقد رصد "المؤشر الفتوى العالمي" قبل ذلك أن عينة قوامها (3000) فتاوى على مستوى العالم تخص الاحتفالات بأعياد المسيحيين، تبيَّن أن فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية جاءت بنسبة (35%)، في حين مثلَّت الفتاوى غير الرسمية نسبة (65%)؛ مما يُبين انشغال تلك التيارات بقضايا من شأنها إحداث خلل في نسيج الوطن الواحد، ويبين أنها الأعلى في التأثير على الشباب.
دعونا نقول إن علاج المشكلة من جذورها لا يكفي فيه فتاوى الجواز من العلماء الحقيقيين التي تقابل فتوى المنع من المتطرفين، بل لابد من تفعيل مبادرة تتمثل في استخلاص المواقف المشرقة بين (المسلمين والمسيحيين)، مع تحويل المسار المعتاد الذى يتبنى فيه الخطاب الإسلامي المعتدل نماذج مشرقة من مواقف المسلمين تجاه الأقباط، ويتبنى الخطاب المسيحي المعتدل نماذج مشرقة من مواقف الأقباط تجاه المسلمين، فنعكس الأمر، ليتبنى المسلمون ذكر مواقف الأقباط المشرقة وهى كثيرة جدًا، ويتبنى الأقباط ذكر مواقف المسلمين المشرقة وهى كثيرة جدًا، عوضًا عن الصور السلبية التي ينقلها المتشددون من الطرفين، وتكون هذه النماذج مقررات دراسية، يُمتحن فيها الطالب، وتصبح مجالا للمسابقات الثقافية والدينية، وعنوانا للخطب في المسجد والكنيسة.
ومن هذه النماذج-:
1- جاء وفد نصارى نجران لرسول الله فأنزلهم في المسجد النبوي، وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون بجانب المسلمين، ورسول الله والصحابة يصلون في جانب آخر لا يبعد عنهم.
2-وقف الأب "سرجيوس" على منبر الجامع الأزهر إبان ثورة ١٩١٩م فقال كلمة وطنية بليغة: «إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط، فأنا أقول: فليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحرارًا، وإذا كان الاستقلال يحتاج إلى تضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية".
3- ورد في بعض الكتب أنه كان يجتمع في مجلس واحد بمكان واحد في العراق عشرة أشخاص كلهم أصحاب علم ومكانة، كانوا يتناقشون في العلم والحياة هم: العالم النحوي الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو من علماء (السنة)، والشاعر الحميري (وهو من الشيعة)، وابن راس الجالوت (وهو يهودي)، وابن نظير عالم المنطق(وهو مسيحي)، وبشار بن برد(وهو شاعر خليع منحرف ماجن فاسق)، وعمر المؤيد (وهو مجوسي)، والشاعر صالح بن عبد القدوس (وهو زنديق)، وصفيان بن مجاشع (وهو من الخوارج الصفويين)، وحماد عجرد(وهو زنديق شعوبي)، والشاعر ابن سنان (وهو من الصابئين)... هؤلاء كانوا يجتمعون ويتناقشون في الأدب والسياسة واللغة والحياة في جو من الود والحب والتآلف، لا تكاد أن تعرف أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في الدين والمذهب والعقيدة والأخلاق والتصورات السياسية، فبالحب والمودة اجتمعوا ونسوا خلافاتهم المذهبية والدينية.