الوباء بين السينما والأدب.. نقاد يتناولون الظاهرة
تعددت الرؤى والتفاسير المنطقية لأدب الوباء، واختلف الأدباء حول وصف دقيق له، ولكن التعريف الدارج والمتعارف عليه وهو أن هذا الأدب يلتزم باكتشاف، إن لم يكن نوعا من التفسير فإنه نوعا من المعنى المستخرج من التجربة الحية للخوف والرعب والهلع واليأس للناس من هذا الوباء.
ويمكن تحديد سمة مشتركة لأدب الوباء هي أنه هذا الأدب يؤرخ للوباء ومكان حدوثه والفترة الزمنية له وأسبابه وطرق تفشيه وسبل مقاومته أو هروب الناس منه.. فالجميع تحت الخطر يتشابهون فى طرق التعامل معه ، وكلها هموم إنسانية عالمية هى من صميم وجوهر الشخصية الإنسانية.
وفي هذه السطور استطلعنا آراء بعض نقاد الأدب والسينما حول الرؤية الفلسفية العميقة لأدب الوباء ودوره قبل وبعد الوباء.
حضور جزئي أو كلي للوباء فى الأدب
يرى الناقد الأدبى الدكتور كمال اللهيب أن انتقال الوباء إلى عالم السرد يمنحه دلالات مضافة.. ينتجها أثره على مصائر الشخصيات ومَفْصلة الأحداث وتشكيل الزمكانية السردية، وتتعدد أنماط حضور الوباء في الأدب، فقد يكون حضورا كليا يشمل الرواية، فتنعقد عليه مصائر جميع شخصياتها ويمفصل أحداثها كما في رواية "الطاعون" لألبير كامي، أو جزئيا كما في "ملحمة الحرافيش" حيث وظف الوباء "الشوطة" للتعبير عن واحدة من أهم المرتكزات الفلسفية عند محفوظ، وهي فكرة “النهايات بدايات، والحياة ديمومة لا تتوقف"، فيجتاح الحارة وينهي على قاطنيها، وتلك النهاية كانت البداية لعاشور الناجي الذي نجا من الوباء وزوجته وابنه، وعاد بهم من الخلاء ليمثل فكرة الوجود الأول للإنسان، أو يكون حضورا زائفا كما في "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، عبر إشاعة يطلقها عاشق للبقاء مع معشوقته، أو ذا طبيعة ميتافيزيقية تفتح آفاق التأويل كما في "العمى" لساراماجو.. وغيرها الكثير، وفي رأيي أن قدرة الأدب على تحويل "الوباء" من ظاهرة تفتك بالحياة إلى ظاهرة جمالية فلسفية، هي منحة إلهية للإنسان, يواجه بها الموت والقبح بخلق الحياة والجمال.
لحظات الأوبئة مادة خصبة للشعراء والأدباء
يرى الناقد الأدبي الدكتور رامي هلال أنه رغم ما تجره الأوبئة من آثار كارثية على البشرية فهي توقف خط سير الحياة وتطلق أشباح الموت في النفوس والبنايات إلا أنها تعد من الأحداث الكبرى الملهمة للشعراء والأدباء ، فلحظات الأوبئة كلحظات الحروب أيام ثقيلة فاصلة في تاريخ الإنسانية فيها: من سرعة التغير، وسيولة الأحداث، وخلخلة الواقع وتغيره ، وما يعتري البشر من الخوف والاضطراب واليأس على كافة الأصعدة، والهجرات الجماعية التي تحدث تداخل جديد في النسيج الإنساني، واستبدال أجيال إنسانية بغيرها، هي لحظة وجود كثيفة تحمل طبقات متعددة من المعاني، فالواقع يصبح معادلا لتراجيديا إنسانية، ما يجعلها مادة خصبة للأدباء والشعراء، كما أن العزلة المفروضة إبان الأزمة تخلق ضيقا في المكان وفائضا في الزمان مما يحفز الأدباء على الكتابة والإبداع
والأدباء يسجلون الواقع ممتزجا بشعورهم ويصبغونه برؤاهم وأفكارهم؛ فأدب الوباء يعد تأريخا وجدانيا لهذه الأحداث العظيمة ومثاله قصيدة (الكوليرا )التي كتبتها (نازك الملائكة) الشاعرة العراقية متأثرة بأحداث الكوليرا التي اجتاحت مصر في عام (1947) تقول فيها:
في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت
الصمت مرير
لا شيئ سوى رجع التكبير
حتى حفار القبر ثوى لم يبق نصير .
وبينما كانت نازك تبدع الواقع شعرا وتسجله بفيض من شعورها وقطعة من روحها كان (ألبير كامى) الروائي الفرنسي قد نشر روايته (الطاعون) حول مرض الطاعون الذي انتشر في مدينة وهران الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي لكنه ضمنها أسئلة وجودية كبري وحملها عمقا فلسفيا نابعا من الوجودية التي كان يؤمن بها ويكشف عن تعاطي البشر مع شبح الموت وطرقهم في مواجهته وحصل على جائزة نوبل في العام نفسه.
إن الوباء في سرد كامو كان نوعا من اكتشاف الذات الانسانية وتمردها وعبثها في مواجهة مصيرها المحتوم وهذا من حسنات الأوبئة فهي تعيد اكتشاف وجودنا وتختبر طريقتنا وأساليبنا في الحياة وتجبرنا على ترتيب اوضاعنا من جديد فالإنسانية لا تعدم ضوءا في آخر النفق.
الأدب الحقيقى هو وسيلة للتعبير عن الألم
أما الروائي والقاص والناقد الأدبى الدكتور إيهاب بديوي فيرى أن الأدب وسيلة فلسفية ثقافية للتعبير عن الألم. الأدب الحقيقي يستطيع استخراج الجمال من وسط القبح وإعطاء بعد جديد للحياة العادية. وخلال القرن العشرين استطاعت روايات عظيمة أن تنقل لنا مآسي حقيقية حدثت بسبب مرض قاتل. مثل الحب في زمن الكوليرا والعمى. وهناك روايات ناقشت اصابة الأرض بوباء خيالي مثل روايات ما يطلقون عليه الزومبي. إذا الأدب حاضر قبل المأساة حين يحذر منها وبعدها عندما يعبر عنها بصورة أدبية رفيعة.
ويضيف: في اعتقادي أن المأساة التي يعيشها العالم كله حاليا والتي لم يسبق له مثيل منذ اجتياح وباء الأنفلونزا للعالم عام 1918 واستمراره عامين. هذه المأساة ستفرز أعمالا أدبية عظيمة، لأن الإبداع الحقيقي يستطيع التعبير عن الألم والفقد والفراق أفضل كثيرا واعمق واقوى من القرب والوصال.
السينما العربية والعالمية وتراجيديا الأوبئة
فى حين يرى الناقد السينمائي الأستاذ أحمد إبراهيم أحمد أنه إتخذ الكثير من الأعمال الفنية من الأوبئة مجالاً خصباً لحبكتها، ومن تلك الأعمال بعض الأدب الإغريقي، والأدب الغربي الحديث كرواية ألكسندر دوماس الابن غادة الكاميليا التي نُشرت أول مرة عام 1848 م وماتت بطلتها بالسل، ورواية الطاعون لألبير كامي، ورواية العمى لخوسيه ساراماجيو، والحب في زمن الكوليرا لجابريل جارسيا ماركيز، ويأتي نجيب محفوظ بين من اهتموا الأوبئة على المجتمع كما في رواية خان الخليلي التي مات فيها البطل إثر إصابته بالسل؛ وفي روايته الحرافيش التي وظف فيها انتشار الطاعون في مصر بداية القرن التاسع عشر، وعرضت رواية سعد مكاوي السائرون نياماً ما شهدته مصر من انتشار للأوبئة والقحط في العصر المملوكي، ومثلت رواية المصابيح الزرق للروائي السوري حنا مينه عملاً لافتاً بموت اثنين من أبطال الرواية بالسل؛ كذلك رواية اليوم السادس للكاتبة المصرية الفرنسية أندريه شديد؛ حيث كان اليوم السادس هو ممر الطفل للحياة للشفاء من الكوليرا.
وتناولت السينما المصرية حكايات عن الأوبئة التقليدية Epidemic ولم تتعرض لأوبئة تتخطى الحدود Pandemic فلم تحظى الأفلام التي تعنى بالأمراض والأوبئة بالقدر الكافي من عناية المنتجين؛ ومن أشهر الأعمال السينمائية المصرية التي تناولت انتشار الأوبئة أفلام: صراع الابطال إخراج توفيق صالح انتاج 1962م، الزوجة الثانية إخراج صلاح ابو سيف عام 1967م، اليوم السادس إخراج يوسف شاهين عام 1968م، طالع النخل إخراج محمد فاضل انتاج 1988م، الحب في طابا إخراج أحمد فؤاد انتاج عام 1992 م.
بينما قدمت السينما العالمية روائع خلال ربع القرن الماضي لعل أبرزها: الجائحة (تفشي وباء) Outbreak عام 1995م -العمى Blindness عام 2008م.-الحاملين للمرض Carriers عام 2009م.-العدوى Contagion 2011م.-الحاسة المثالية Perfect sense2011م.-الأنفلونزا The Flu 2103م.-المقصورة Cabin Fever عام 2014م.-احتواءContainment عام 2016م.-93 يوماً 93 Days2016م.-الشحنة Cargo عام 2017م.-صندوق الطير Bird box عام 2018م.-الفيروس Virus عام 2019م-الجائحة الوبائية Pandemic عام 2020م.- الوقاية من الأوبئة How to Prevent an Outbreak عام 2020م.
وتعكس معظم هذه الأفلام قناعة شبه مؤكدة بمؤامرات تدار لإنتاج مواد تسبب الأوبئة في إطار الصراع بين الدول؛ كذلك تأتي مسببات الوباء من أعداء تقليدين للغرب في آسيا وإفريقيا ودول اشتراكية، وتأتي الحلول على يد بطل، يقود مجموعة تتشبث بالأمل والرغبة في النجاة في نهايات تكاد تتناص مع قصة النبي؛ ما يؤكد أن الأسطورة لم ولن تموت.