"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟".. أرسلان: فساد الأخلاق أبرز الأسباب
كثيرًا ما يتباكى كثيرون على أحوال العرب عمومًا والمسلمون خصوصًا، وما الذي أدى بهم إلى التأخر عن الأمم الأخرى ويجعلهم على هذا الاضمحلال.
شكيب "أرسلان" كان سباقا إلى تحديد الأسباب لذلك، فيرى في كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟"، أن أعظم أسباب تأخر المسلمين الجهل، الذي يجعل فيهم من لا يميز بين الخمر والخل، فيتقبل السفسطة كقضية مسلمة، ولا يعرف أن يرد عليها.
ويضيف: “من أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص، الذي هو أشد خطرًا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ولم يتفلسف عليه، فأما أصحاب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري”، وكما قيل: “ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون، أقول: “ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم”.
ويوضح: من أعظم أسباب تأخر المسلمين فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف، ولله در شوقي إذ قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين، حسب أرسلان أيضا، فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء، إلا من رحم ربك، أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاءون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة بطشوا به؛ عبرة لغيره.
ويستطرد: جاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء، المتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة.
ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أود الأمراء، وكان قديما في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون خطوات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة فمن بعده إلى الصواب.
وهكذا كانت تستقيم الأمور؛ لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين بالزهد، متحلين بالورع، متخلين عن حظوظ الدنيا، لا يهمهم أغضب الملك الظالم الجبار أم رضي، فكان الخلائف والملوك يرهبونهم، ويخشون مخالفتهم؛ لما يعلمون من انقياد العامة لهم، واعتقاد الأمة إمامتهم، إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعد هؤلاء خلف اتخذوا العلم مهنة للعيش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من الأمراء أشنع موبقاتهم، وأباحوا لهم باسم الدين خرق حدود الدين، هذا؛ والعامة المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلو مناصبهم، يظنون فتياهم صحيحة، وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتنمر، وكل هذا إثمه في رقاب هؤلاء العلماء.
ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة واحتقار الموت، يقوم واحدهم للعشرة وربما للمئة من غيرهم، فالآن أصبحوا — إلا بعض قبائل منهم — يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام في قلب واحد، ومن الغريب أن الإفرنج المعتدين لا يهابون الموت في اعتدائهم، هيبة المسلمين إياه في دفاعهم، وأن المسلمين يرون الغايات البعيدة التي يبلغها الإفرنج في استحقار الحياة والتهافت على الهلكة في سبيل قوميتهم ووطنهم، ولا تأخذهم من ذلك الغيرة، ولا يقولون: نحن أولى من هؤلاء باستحقار الحياة؛ وقد قال الله تعالى: ولا تهنوا في ابتغاء القوم ۖ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ۖ وترجون من الله ما لا يرجون.
وقد انضم إلى الجبن والهلع اللذين أصابا المسلمين اليأس والقنوط من رحمة الله، فمنهم فئات قد وقر في أنفسهم أن الإفرنج هم الأعلون على كل حال٣ وأنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه، وأن كل مقاومة عبث، وأن كل مناهضة خرق في الرأي، ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر في صدور المسلمين أمام الأوروبيين إلى أن صار هؤلاء ينصرون بالرعب، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من المسلمين، وهذا بعكس ما كان في العصر الأول:
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
نسى المسلمون الأيام السالفة التي كان فيها العشرون مسلما لا غير يأتون من "برشلونة" إلى "فراكسية" من سواحل فرنسة ويستولون على جبل هناك، ويبنون به حصنا، ويتزايد عددهم حتى يصيروا مئة رجل فيؤسسون هناك إمارة تعصف ريحها بجنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا، وتهادنها ملوك تلك النواحي وتخطب ولاءها، وتستولي على رءوس جبال الألب، وعلى المعابر التي عليها الطرق الشهيرة بين فرنسا وإيطاليا، لا سيما معبر سان برنار الشهير، وتضطر جميع قوافل الإفرنج أن تؤدي للعرب المكوس لأجل المرور، تتقدم هذه الدولة العربية الصغيرة في بلاد (البيامون) مسافات بعيدة إلى أن تبلغ سويسرة وبحيرة (كونستانزه) في قلب أوروبا، وتضم القسم العالي من سويسرا إلى أملاكها، وتبقى خمسا وتسعين سنة مستولية على هذه الديار إلى أن تتألب الأمم الإفرنجية عليها، ولا تزال تناجزها إلى أن استأصلتها، وكانت تلك العصابة العربية يوم انقرضت لا تزيد على ألف وخمس مئة رجل٤ (وقد نشرنا تفصيل خبرها في المجلد 24 من المنار.
وشكيب أرسلان أديب ومفكر عربي لبناني. لقب بأمير البيان؛ لغزارة إنتاجه الفكري. ولد عام 1869م، بقرية الشويفات قرب بيروت، وتأثر بعدد كبير من أعلام عصره ممن تتلمذ على أيديهم أو اتصل بهم في مراحل متعددة من حياته، كأساتذته «الشيخ عبد الله البستاني» وأحمد فارس الشدياق، كما تعرف إلى أحمد شوقي وإسماعيل صبري، وغيرهما من أعلام الفكر والأدب والشعر في عصره. وقد أجاد أرسلان عدة لغات، هي: العربية، والتركية، والفرنسية، والألمانية.
أمضى شكيب أرسلان قسطا كبيرا من عمره في الرحلات، فقام برحلاته المشهورة من لوزان بسويسرا إلى نابولي في إيطاليا، إلى بورسعيد في مصر، واجتاز قناة السويس والبحر الأحمر إلى جدة ثم مكة المكرمة. وكان يسجل في هذه الرحلة كل ما يراه ويقابله. قضى "أرسلان" نحو ستين عاما في القراءة والكتابة والخطابة، ومن أشهر مؤلفاته: "الحلل السندسية"، و"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، و"الارتسامات اللطاف"، و"تاريخ غزوات العرب".