"عزيزي سمير.. كل الحب"
• "أغاتا شيمانوفيتش" مصورة من بولندا.. من 21 سنة زارت سوريا عشان تصور مجموعة صور.. ضاع منها جواز سفرها و فلوسها والكاميرا بتاعتها والفيزا.. بقى مش معاها أى حاجة حرفياً.. راحت خبطت على أول بيت سوري قابلته ولقت أسرة مكونة من أب وزوجته وولادهم التلاتة.. حكت لهم على قصتها.. استضافوها.. بتقول "أغاتا": (وجدت نفسي غريبة، وحيدة وخائفة، وأخذتني هذه العائلة، وأنا الغريبة تماماً إلى بيتها، لم يمنحوني الطعام والملجأ فحسب، بل أيضاً عاملوني كضيف عزيز وجعلوني أشعر بالأمان وبأني مرحّبٌ بي.. في حواراتنا الطويلة الساحرة، عرفوني على ديانتهم وثقافتهم، لقد غيرت تلك التجربة حياتي، وقد قادت إلى اهتمامي الدائم بالشرق الأوسط والإسلام.. لكن إحساسي بالامتنان هو أكثر ما لم أنسه، ومعرفة أن أناساً بهذا اللطف موجودون في العالم جعلني أشعر دائماً بأمان أكثر في عالمنا المضطرب)..اتحلت مشكلة "أغاتا" ورجعت بلدها.. في سنة 2015 ولما كان حاصل أحداث عنف في سوريا اتحركت مشاعر "أغاتا" تجاه الأسرة السورية اللي استضافوها وكانت قلقانة عليهم وعايزة ترد الجميل وتجيبهم يعيشوا في بولندا عندها زى ما عملوا معاها!.. الفكرة إنها كانت لأسباب الزمن أو الدربكة مش معاها أى حاجة توصلها بيهم.. كل اللى باقي معاها من الموقف ده صورتين بس اتصورتهم مع الأسرة دى + شوية تفاصيل بسيطة زى إن الأب طبيب والأم سيدة منزل والإبن الأكبر اسمه "فادى" ووقتها كان بيدرس في كلية طب يعنى دلوقتى في التلاتينات، واخته اسمها "رلي" وكانت بتدرس العمارة وقتها ودلوقتي تعتبر برضه في التلاتينات، وأخوهم الصغير كان عنده وقتها 7 سنين يعني دلوقتي في العشرينات.. كتبت بوست عندها وحطت فيه الميل بتاعها على أمل إن أى حد يعرف معلومات عنهم يدلها عليهم.. لما الموضوع انتشر فيه حد طمنها على الإنبوكس إنهم بخير.. يوم جر يوم وأسبوع جر التاني وقبل ما الأسبوع الثالث يمر كانت قدرت توصل للأسرة الجميلة اللطيفة وبعتت لهم ييجوا يقيموا في بولندا إقامة كاملة عندها في بيتها عشان يكونوا في أمان من اللي كان حاصل في سوريا وقتها.. تصرف نبيل من الأسرة السورية كان وراه بـ حوالي 15 سنة تصرف نبيل من "أغاتا".. النُبل بيجيب نُبل، واللُطف بيجيب لُطف.
• في سنة 2013 رحت أبعت حوالة مالية من مكتب البريد.. كان يوم حر وملزق و قمة في الخنقة أساساً وعشان صورة اليوم اللي باين من أوله تكتمل لقيت طابور طويل عريض وبالتالي أكيد انتظار أكتر ووقت يضيع أكتر.. بشوية إستنصاح على حداقة مني قعدت أخرم من الجنب لـ حد ما وصلت لـ أول الطابور.. الناس اللي واقفة فالطابور اعترضوا على تصرفي بشكل قاسي وجماعي: (أنت احسن مننا يعني، اقف في الصف يا أستاذ، احترم الناس اللي واقفة).. أنا كنت غلطان بس العرق الصعيدى نقح وقتها ولو كان الكلام والعتاب وقف لحد هنا كنت هرجع اقف آخر واحد عادي لولا إن فيه واحد من اللي الواقفين قل أدبه.. قليت أدبي.. اشتبكنا.. الناس دخلت حوّشت ما بينا.. كبر الموضوع في دماغي وصممت إني مش همشي من قدام الشباك.. واحد من الناس اللي واقفين لابس جلابية وملتحي عمره مش أقل من 60 سنة وكان ترتيبه رقم اتنين في الطابور.. خدني على جنب وقال لي: (صلي على النبي خلاص بقى أخوك وأعصابه تعبانة من الوقفة زى ما أنت أعصابك تعبانة وباين على وشك، إن ماكناش نستحمل بعضنا مين هيستحملنا يا بني هى مش ماشية غير بتعكيزنا على بعض).. طريقة كلامه مع النبرة الهادية كان ليهم دور إني هديت.. كمل كلامه: (زيد النبي كمان صلاة).. عليه أفضل الصلاة والسلام.. لو عليا كنت هكمل خناق لإنى مش بسيب حقي لكن بصراحة كلامه ريحني ولقيت نفسي لا إرادياً برجع أقف في آخر الصف وبمنتهى الرضا.. لغاية هنا مش مهم.. الغريب إن الشيخ ده اتحرك معايا وساب دوره التاني في الطابور وجه وقف معايا في الآخر!.. وفضل يكلمني على ضرورة كظم الغيظ وعدم الإنفعال وإمتصاص أفعال اللي قدامك.. وكل ما كنت أنبهه وأقول له دورك يا شيخ يقول "مش مهم" ويكمل كلامه!.. دوري ودوره جُم بعد ساعة الإ ثلث محستش بأى ثانية منهم من استمتاعي بالكلام معاه والبص في وشه السمح اللي كنت بدأت أركز في تفاصيله.. فضل جوايا السؤال لحد بعد ما خرجت من المكتب.. إيه اللي يخلي واحد راجل شيخ كبير في السن يسيب دوره في طابور طويل عريض عشان يقف يهدي ويتكلم مع واحد ميعرفوش وينصحه؟!.. بعدها بكام يوم لقيت الإجابة وهى إن مفيش إجابة!.. ليه بنجتهد ندور على أسباب للجمال!.. فيه ناس حلوة لله في لله كده وخلاص.. ناس يحببوك فيهم بتصرفاتهم.. دول اللي بيسموهم الناس السمحة أو في أقوال أخرى الناس النضيفة.
• مع قراءتك لسطور المقال ده خلال يوم الجمعة هتكون انتهت من لحظات مراسم دفن الفنان القدير الجميل "سمير غانم" اللي اتوفى امبارح.. الراجل البسيط اللي سيطرت حالة الحزن على معظم المصريين وبمختلف أعمارهم بمجرد معرفتهم بخبر وفاته.. في سنة 2010 كنت في مدينة الإنتاج الإعلامي لظروف خاصة بالشغل وخلصت متأخر وخرجت من المبنى اللي كنت فيه حوالي الساعة 11 بالليل.. مدينة الإنتاج الإعلامي للي مايعرفهاش هى مجموعة من الإستديوهات الخاصة بـ قنوات تليفزيونية أو إذاعية وموجودة في 6 أكتوبر جوه مجمع ولازم يكون معاك عربية عشان توصل لها سواء وأنت رايح أو وأنت خارج منها لإن المسافات جوه كبيرة جداً!.. بسبب تأخري في الشغل ماكنش فيه فرصة إني أركب مع حد من زمايلي فكنت مضطر إني أخرج على رجليا مسافة حوالي 3 كيلو عشان أطلع للطريق بره خالص بعد بوابات المدينة وهناك ممكن ربنا يكرم بـ تاكسي أو مواصلة.. عملت كده فعلاً.. وأن ماشي وبعد ما قطعت جزء مش قليل من المسافة وكنت فعلاً تعبت سمعت صوت عربية جاى من ورايا وبيقرب.. ولإن العربية جاية من ورايا يعني من جوه المدينة فغالباً هى مش تاكسي أكيد عربية خاصة فمفيش داعي أشاور أو أحرج نفسي وأطلب منهم ياخدوني معاهم.. كملت مشى عادي وبدأ صوت العربية يبقى هادي!.. وقفت.. بصيت لقيت عربية سوداء كبيرة بقت في محازاتي ووقفت لما أنا وقفت.. كانت على يميني والسواق كان من ناحيتي.. نزل الإزاز وشوفت ملامحه.. سواق بسيط سألني سؤال مباشر: (محتاج مساعدة؟).. شكرته بإمتنان، وسمعت صوت تاني بيقول: (بقولك إيه يا قمر).. كان الصوت جاي من الشخص اللي قاعد جنب السواق.. وطيت وشوفته.. إيه ده!.. "سمير غانم".. للحظات كنت مش مصدق إن ده شريك الطفولة بشحمه ولحمه.. كمل كلامه بطريقته الحلوة اللطيفة: (يا ابني لو بتمشي عشان تخس فأنت مش محتاج، ولو عشان معكش عربية تعالا إركب معانا).. الكلام طلع مني متلخبط وكنت في قمة الهرتلة مش عارف أجمع كلمتين على بعض ومزيج بين الإندهاش وإني عايز أضحك وأشكر فقولت: (ربنا يخلي حضرتك والله أنا فيه حد صاحبي مستنيني ومعاه عربية وخلاص هو واقف هناك).. وشاورت مشاورة وهمية فطلب مني إني ألف ناحية الشباك بتاعه.. لفيت.. شاورلي إني أقرب من الشباك وقال بصوت واطي وبنفس طريقته اللطيفة: (كده يبقى مش معاك فلوس، خُد).. وطلع لي 200 جنيه.. استمرت حالة اللخبطة اللي أنا فيها، وهو فضل مصمم إني يا إما آخد الـ 200 جنيه يا إما أركب معاه عشان يطلعني للطريق بره!.. خمس دقايق من الجدال والمحايلة وأنا رافض وهو مصمم لحد ما في النهاية وقدام إلحاحي في الرفض وافق على مضض ومشي.. تصرف إنساني نقي بدون أى غرض وماكنش مضطر يعمله بالمرة مع واحد شاب مايعرفهوش لقاه ماشي في حتة مقطوعة لوحده!.. عدى الموقف بس فضل في ذاكرتي وهيفضل مكمل فيها ومعاه تقدير كبير لشخص "سمير غانم" الإنسان مع الفنان.
• في سنة 2014 ولما جت شركة من شركات المياه الغازية عشان تعمل إعلانها الرمضاني السنوي اتفقوا مع "سمير" إنه يكون في الإعلان.. فكرة الإعلان إنهم هيجيبوا "سمير" و"شيرين" عشان يصوروا لقطة من مسرحية "المتزوجون" اللي كلنا مرتبطين بيها لحد دلوقتي.. القائمين على الإعلان وهما بيشرحوا لـ "سمير" فكرته كان هو بيفكر في تفصيلة تانية خالص.. ليه مانجيبش "جورج" يشارك في الإعلان معانا؟.. كان الطلب غريب ومجنون خصوصاً إن وقتها كان "جورج سيدهم" كده كمل 25 سنة بالتمام والكمال مش بيتحرك من على الكرسي ولا بيتكلم ولا بيخرج من بيته بسبب ظروفه الصحية.. لأ تعالوا نجرب وسيبوا عليا أنا موضوع إقناعه!.. بالنسبة للشركة العرض كان مغري لإن وجود "جورج" في الإعلان بعد سنين الغياب دي هيكون له قيمته وهينجح الإعلان أكتر لكن بالنسبة لـ "سمير" مشاركة صديق عمره كانت هترفع روحه المعنوية وتخليه يشوف بعينه فرحة الناس بيه وممكن تفرق معاه على المستوى النفسي والصحي.. ده غير إنه مقتنع إن نجاح "المتزوجون" ماكنش عشان "سمير" بس لكن "سمير و"جورج".. قدر "سمير" يقنع "جورج" وزوجته وفعلاً عمل الإعلان وكان في قمة اللطف وتقدر بسهولة تشوف الفرحة اللي بتنط من عيون "جورج" خلال ثواني الإعلان الموجود على يوتيوب.. بالمناسبة بعد ما خلص الإعلان "جورج" بعت رسالة لـ "سمير" من كلمتين.. "لقد طوقت عنقي".
• قبل وفاته وأثناء محنة مرضه الأخير من أيام كان فيه تعليق على فيسبوك لسيدة اسمها "صافيناز" وهى من أمهات واحد من شهدائنا الشهيد النقيب "محمد فؤاد" شهيد الحادث الإرهابى في كمين العتلاوى في العريش يناير 2016؛ كانت بتدعي لـ "سمير غانم" إن ربنا يشفيه بمنتهى الإخلاص وكتبت إنها ماكانتش من اللي بيتفرجوا بشكل دائم عليه بس حصل منه موقف هو اللي خلاّها تحس تجاهه بتقدير كبير.. بتقول إن في نفس يوم استشهاد إبنها كان "سمير" طالع ضيف في برنامج ولما وصل للإستديو وأول كلمة قالها على الهوا إنه جه عشان يعتذر عن تكملة الحلقة لإنه مش هيقدر إن يكون فيه شهداء ويطلع يتكلم في ضحك وهزار.. وقال الكلمتين وساب الحلقة!.. أنا مؤمن إن الإنسان مننا دوره في الدنيا إنه يعمل سيرة.. يسعى بكل جهده يسيب أثر لطيف في اللي حواليه سواء يعرفهم بشكل شخصي أو عابر بأعماله وكلامه عشان لما يروح وكده كده كلنا رايحين مش بيفضل غير السيرة.. وده اللي عمله "سمير غانم" إنه ساب سيرة.
• تقابل على قد ما تقابل وتشوف من الناس الفالصو على قد ما تشوف لكن كل فين وفين كده يطلعلك حد إبن حلال من الناس النضيفة الحلوين لله في لله واللي يحببوك فيهم بتصرفاتهم.. ناس تحس إن قلوبهم مغسولة بـ طيبة وأرواحهم متعطرة بـ خير ومعجونين جدعنة.. مش منتظرين منك شكر، ولا عايزين غير إنك تكون بخير.. نجدة نازلالك من السما وبدون ما تطلب.. مش لازم يكونوا على علاقة مستمرة معاك في باقي حياتك لأ ده ممكن ظهورهم يكون خطف كده زى الطيف.. ظهور لحظي بس أثر دائم.. وجود حد منهم ولو كان قليل وبسيط بس بيكون تعويض عن خذلان من عشروميت واحد.. مليون تحية لـ كل الناس السمحة اللي بيطبعوا جوا أرواحنا حاجة مش بتتنسي ولا بتتمسح مع الزمن.