سماسم والريس بيرة.. قصة قصيرة للكاتب أحمد إبراهيم أحمد
علمونا في الجدول الدوري أن (بيزموث) عنصر نادر، وكان اسماً لشارع سكانه خليطٌ متناغمٌ من المعلمين المصريين، وصغار الموظفين من الأفندية المحاطين بباقة أرمن، وجريج، وطليان، يتعايشون في سلام، وينظر المصريون لهم بإعجاب من يريد أن يتعلم شيئاً جديداً... هم لا يُدركون ماهية هذا الشيء؛ لكنهم يعلمون بشكل مؤكد أنه موجود!
كنا من سكان الشارع، تدير حياتنا امرأة قوية الشكيمة (هي أمي) تحرص أن تنتهي من مسئوليات البيت قبل الظهر حتى يجد كل عائد ما يحتاجه بلا طلب، لتجد وقتاً تجلس فيه ساعة العصاري على رخام البلكون المصنوع سوره من حديد الفورفورجيه، تشاطر جارتها الأرمينية (أم اسطفان) حديث عمره سنوات (دون أن يعرف أحد فيما تتحدثان).
كانت تحرص في عيد الفطر أن تقذف لها صرة (النُقل) مع كمية من كعك العيد في (السبت الخوص) الذي تقذفه أم اسطفان لها، فتضع فيه طبقاً مغطى بمنديل محلاوي مربوط بإحكام، ثم تدلي السبت ببطء حتى لا يتكسر الكعك، لترفعه أم اسطفان التي لم تكن أقل كرماً من أمي، فكانت تبادلها أنواع الحلوى وقطع الكيك الشهي، التي كانت تصنع لنا -نحن الأولاد -عيداً بلا موعد.
عرفنا أن اسم الشارع لم يعجب رئيس الحي (كان من جذور بدوية يعتز بالإعلان عنها، وينتمي لجماعة السنوسية الصوفية، وكان سلفياً متشدداً رغم أنه حليق اللحية، يرتدي ثياباً من أفخر الأقمشة، يحيكها أمهر خياطي الإسكندرية) فقرر تغيير اسم الشارع من (بيزموث) إلى (عبد الحميد السنوسي) وتم له ما أراد، كونه يملك السلطة، ورافق تغيير اسم الشارع زواج اسطفان من قبطية زميلة لأختي، فانتقل بها وبأمه لشقة أرحب في بيت الأرمن الكبير بشارع أبي الدرداء.
فوجئنا بشارعنا الصغير يتبدل مكانه، فقد حمله السكان الجدد أثناء الليل، ونقلوه من حي باب عمر باشا إلى حي غيط العنب، لنُصبح فنجد بيتنا ممدداً بجوار ترعة المحمودية بلا سابق إنذار.
صاحب انتقال الشارع أن حلت بشقة اسطفان كارثة بشرية على هيئة أسر عدة، سكن كل أسرة منهم غرفة من غرف الشقة، وتشاركوا في المطبخ والحمام، فأصبحنا أحرص على إغلاق أبواب البلكون الذي لم يمنع شجارهم وضجيجهم وفوضى وجودهم من اختراق عالمنا الذي كان تعود الهدوء، ثم اكتشفنا أن الشارع خلا من الأجانب، وحل ببيوتهم ما حل بشقة اسطفان.
لاحظنا أيضاً أن الشارع أصبح أكثر ظلاماً (إلا أننا كنا أكثر حظاً من غيرنا فقد طل صف البيوت الذي يقع فيه بيتنا من ناحية على الشارع الضيق القديم، ومن الجهة الأخرى على الترعة، التي عانينا الناموس بسبب قربنا منها).
تعودنا ليالي سودا سواء حين تأتي أمسيات حزن، فيُغلق السكان- الذين احتلوا بيوت الأجانب- الشارع من الجهتين بالبطاطين الميري الرمادية (المعلقة على حبال ممدودة بعرض الشارع) ويضعون طسوت الحديد الصدئة، مملوءة بالنيلة الزرقاء في فوضى تتيح للنسوة الالتفاف حولها، والأخذ من النيلة لتلطيخ وجوههن، ويستجبن بالصريخ والولولة، لإنشاد المُعددات المحترفات في إيقاع رهيب، يتوارى أعتى إيقاع سيمفوني منه خجلاً، ولا ينفض جمعهن إلا قبيل الفجر بقليل (كانت المعددات تجلسن بجوانب الشارع متباعدات بمسافات محسوبة، ولا يتنيلن بالنيلة الزرقاء).
لم تقل ليالي الفرح سواداً عن أيام الحزن؛ حيث يتكرر طقس البطاطين، لكن تقام هذه المرة خشبة مسرح عشوائية عليها بضع مقاعد، يتوسطها كرسيا عرش (سيجلس عليهما العريس وعروسه) ثم ترص المقاعد بطول الشارع بشكل يسمح بممر ضيق في المنتصف، وتعد (القعدة) في مدخل الشارع وبجوارها طاولة مليئة بأحجار المعسل مرصوص بجوارها (الجوز) ومكان لرص صناديق زجاجات البيرة (ستلا).
يشتعل الليل بالصراخ والتحطيب حين يهل الريس بيرة والست سماسم، فيتعالى الصريخ متجاوزاً حدود مكبر الصوت؛ حين ينتشي المستمعون طرباً لجملة أطلقها الريس بيرة، متلاعباً بتراكيب الكلمات، أو حين تستدير لهم الست سماسم وهي تتلوى كلولب يدور بلا هوادة، هازة عجيزتها الضخمة، لتصيب كل من يشاهدها بالدوخة.
استكان الشارع لإيقاع سهرات البيرة والحشيش، تُحييها سماسم والريس بيرة، تتلوها أيام التعديد وطسوت النيلة الزرقاء في إيقاع بدا قدراً تراجيدياً لا مفر منه؛ حتى كسر هذا الإيقاع حدث لا يقل غرابة عما يحدث في الشارع!
ظنّ أطفال الشارع حين رأوه طافياً في ترعة المحمودية، يقترب شيئاً فشيئاً أنه بقايا صندل، أو مركب غارق من تلك المسافرة، تحمل بضائع أو آنية فخارية؛ لكن رجح شيخ الجامع أنه حوتٌ، فقفز أحد صعاليك الشارع، وجذبه إلى شاطئ الترعة، ليركض إليه الصبيةُ، وينزعون عنه ورد النيل الذّي يغطيهِ فظهر جثمان، جعلهم يصرخون فرحاً، وشرعوا يلعبون بالغريق حتّى مرّ رجلٌ، نَهَرهم، وسعى إلي حكماء الشارع يخبرهم بما يحدث، فأتى بضع شباب، حملوا الجثمان إلى مقهى في أول الشارع (ليس بمقهى حقيقي بل كوخ بوص به طاولة لصنع المشاريب، ومقاعد وطاولات، تتراقص أرجلها وهناك).
تأوه أحد الشبان قائلاً إن الجثة أثقل من المعتاد كأنها جيفة بغل، فضحك بقية الحمالين، وقال أكثرهم حكمة: "أن الجثة تشبعت بالماء لبقائها وقتاً طويلاً في الترعة".
نظر القهوجي لوجهالجثة ثم أصدر حكماً باتاً أن الغريق لا يمت لشارعهم بصلة، فالشارع صغير وموتاه ندرة، ليس صعباً حملهم لمقابر عامود السواري القريبة؛ لكن دفع الشك رجالُ الشارع أن ينظروا لأنفسهم حتى يتأكدون أن لا أحد ينقص منهم، ثم خرجوا جميعاً، يبحثون في الشوارع والأحياء القريبة عمن يتعرف على الميت؛ فيما اقترب المقدس عبد المسيح - صاحب دكان البقالة الوحيد بالشارع- من الجثمان يتأمله، فظن أن رأى وشم صليب على ذراع الميت، فأرسل صبيه للكنيسة الحمراء ليخطر القس بما وجد، وسرعان ما كان فوق رأس الغريق يتلو صلواته، فجاء شيخ الجامع وطرده.
حين غاب الرجال في بحثهم، خرجن النسوة من بيوتهن، ليشاهدن الغريق، فلاحظن ملابس الميت الممزقة، فقررن تنظيفه، وإعداده للدفن؛ لكن قالت إحداهن أن وجهه لا يشي ببؤس الغرقى، فتقطعت أنفاسهن وجداً، وفقدن اللب لرؤية رجل في جمال وهيبة، لم يعرفنها في رجالهن (نسوة يوسف؟) وأخذت كل امرأة منهن تقارنه بزوجها، وهن يخطفن النظر بشهوة لوجه الغريق بين حين وآخر؛ وكل واحدة حريصة ألا تلاحظ قريناتها نظراتها حتى قتلهن الصمت، إلا أنهن اتفقن أن أزواجهن أكبر الخسائر.
متحلقات حول جثمان الغريق في دائرةٍ توسطتها زوجة شيخ الجامع التي قالت في غنج واهن أنه لو كان صياداً فلا بد أنه ساحر ينادى الأسماك فتأتيَ إليه، ولا شك أن من أغرقته حورية من حوريات الماء، نادته، فلبى، ودخلت النسوة في متاهات الخيال، وتأوهن في وله لما لاحظن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة!
غاب الرجال طوال الليل في الشوارع والأحياء المجاورة، بحثاً عمن يعرف الغريق، وساد الصمتُ، وهبت رياحُ الليل، فقررت النسوة ترك الجثة بقلبها يخفق، وذهبن كل واحدة منهن لبيتها بلا ندم، ولم يفكرن إن كان الغريق مسكيناً، أم كانت تطارده مشاكل جعلنه يتضرع للربّ أن يعينه على حلها؛ لكن جاءت زوجة المقدس عبد المسيح في الفجر، ونظرت لوجهه، فغمر الدمع عينيها حين شاهدت علامات الوهن على وجهه ورأته ضعيفاً كزوجها، فشرعت تنتحب حتى عادت النسوة مع أنوار الصباح لإعداد نقالة من بقايا الأخشاب، لتحمّل نابض القلب لمثواه الأخير، ونسي الرجال والنساء جميعاً الإعداد لعرس الليلة؛ حتى فاجأتهم سماسم والريس بيرة في المساء (ومعهم فرقتهم) فوق رؤوسهم ورؤوسهن، يعبرون عن غضبهم لقلة احترام أهل الشارع لهم بتجاهل الإعداد للعرس.
تعجّل الرجال بالكلّمات، يشرحون ما واجهوه اعتذراً لسماسم والريس بيرة، بينما وجدت النسوة أنها وسيلة مناسبة لتضييع الوقت، وبدأ صراع رهيب بين النسوة حول الجثة دون أن يعرف أحد سببه فشرع بعض الرجال يصرخون: " ماذا تردن؟ ألا تعلمن أن قبراً ينتظر الجثّة؟ ليست هذه إلا جثّة!".
تقدمت الست سماسم نحو الراقد الصامت نابض القلب، تبعد بيديها الواقفات والواقفين عن طريقها، تليها عجيزتها الهائلة حتى وقفت فوق رأس الراقد، فصرخت صرخة واحدة شقت عنان السماء، ودارت حول نفسها دورتين كأبرع راقصات الباليه، ثم أخذت في رقصة تعرفت عليها واحدة من النساء فقالت أنها ترقص (رقصة البطة المذبوحة)!
أخذ التخت المصاحب لها في العزف، وانطلق صوت الريس بيرة يرص الكلمات رصاً رصيناً غاية في الجمال دون أن يعرف أحد من أين يأتي بها؛ حتى أشرقت الدنيا بنور شمسها، وبدا الخجل على وجه الغريق، وذهبت نسوة لشراء زهور من المنشية الصغيرة؛ بينما جاءت أخريات من الأماكن المجاورة للتأكد من صحة ما سمعن، وحين نظرن لشكل الغريق، ذهبن أيضاً لإحضار الورد، ثم جاءت نسوة أُخر حتى ازدحم المكان بالنساء، فتقطعت أنفاس الرجال دهشة؛ لكن أفتى شيخ الجامع أن إكرام الميت دفنه، فتنافس المشيعون في حمل الغريب فوق أكتافهم للقبر عبر المنحدر المؤدّي إلى المقابر لكن لاحظ بعضهم دناءة أفكارهم، وقذارة شوارعهم الضيقة، وقبح بيوتهم مقارنة بجمالِ هذا الغريب.
جاءت أمي من أقصى شارع كرموز تسعى، متأبطة عجوزاً بيضاء الرأس حتى وصلت للجنازة، فرفعت بيضاء الرأس الغطاء عن وجه النائم، وشهقت شهقة واحدة، تفطرت لها القلوب، فصرخت أمي: "إنه اسطفان أيها الجاحدون... لكن كيف ستعرفونه وقد أخذتم مكانه، وأفسدتم مقامه؟".
ألقى الرجال بحملهم، وركضوا فارين، يشهقون بأنفاسهم، وأدركوا أنهم فقدوا الكثير، منذ اللحظة التي حلوا فيها بالشارع، وأن أشياء كثيرة لابد أن تتغير في حياتهم، وأن بيوتهم بحاجة لأسقف أكثر صلابة، وأبواب أعلى، ونوافذ أوسع، تسمح للنور أن ينير حياتهم، وأن بيوتهم القبيحة بحاجة لأن تدهن بألوان زاهية، وشرفاتهم عطشى لزرع الورد كي يستيقظ أبنائهم في فجرِ السنواتِ القادمةِ على رائحةِ الحب، فيُشير العابرون لنوافذهم وزهورَها البلديةَ ينتشر عطرها في الأفق، ويقولون معجبين:-
"أنظروا هنا حيث ضوء الشمس والهدوء وعطر الورد...تأملوا، وسبحوا، وأحبوا هذه البلدة".
لكن لم يفعل أهل الشارع شيئاً، وعادت البطاطين الرمادية تُغلق الشارع للمعددات، يطلقن طيور الحزن، ترفرف في سماء الشارع حيناً، وحيناً آخر لعجيزة الست سماسم، تهتز على إيقاع كلمات الريس بيرة بصوته المبحوح، لترتفع صرخات الرجال الشهوانية تملأ عنان السماء.
* سماسم والريس بيرة راقصة ومغني مؤلف أغاني صعايدة، اشتهرا بالإسكندرية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين