ما بعد رمضان
لم يأتِ عمل رمضان قاصرًا في أيامه التي بين شعبان وشوال؛ بل هو مدرسة يمتد نورها للسنة كلها، فهو بمكانة الوقفة التصحيحية بعد مراجعة كشف حساب السنة التي قبله منذ رحيل رمضان الذي سبقه، وفي هذه الوقفة ومراجعة أعمال سنة ماضية.
يتعلم الصائم كيف يعالج الأخطاء التي وقع فيها، طالبا من الله – عز وجل – العفو والمغفرة في شهر المغفرة، ويعقد العزم على تصحيح مساره في عامه المقبل، حتى إذا ما أدرك رمضان المقبل وجد كشف حسابه فيه أفضل بكثير عن كشف حسابه الذي استعرضه في رمضان المنصرم، وهكذا يفعل كل تاجر حريص على تحقيق الربح في تجارته، فهو بكل تأكيد يجري حسابا ختاميا نهاية كل عام، وذلك لمعرفة ما حققه من مكاسب أو خسائر، وفائدة كشف الحساب الختامي الذي يفعله التجار هو علاج نقاط الضعف التي تسببت في تقليل مكاسبه، وتعزيز نقاط القوة التي حققت له مكاسب، وإذا كان هذا يجري في حسابات وتجارات الدنيا فبكل تأكيد حسابات الآخرة أولى به.
ويستطيع كل مسلم صام رمضان أن يعرف استفادته من صيامه أكثر من تأدية الفريضة أو لا؟ فإذا وجد نفسه بعد رمضان قد تحسن سلوكه وتخلص من كثير من سلبياته التي كان عليها قبل رمضان؛ فليحمد الله على إكرامه له بقبول صيامه واستجابة دعواته التي ذكرها على مائدة إفطاره وفي صلواته وقيامه وتهجده، وإن وجد نفسه قد عاد إلى سابق عهده، كأنه كان مقيد الحريّة في رمضان وقد أصبح حرا، فليعلم أنه قد صام وكفى ويسأل الله أن يتقبل صيامه وألا يكون ممن قال عنهم رسولنا: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
وإذا كنا قد انتهينا من شهر لو علمنا ما فيه حقا لتمنينا أن تكون السنة كلها رمضان كما قال حبيب ربه: "لو علم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان"، وليس استثقال يوم الثلاثين كلما جاء رمضان تاما، حيث نصوم يوما كان يمكن أن يكون يوم فطر، أو نتمنى أن يكون شعبان مكتملا لتأخير الصيام يوما! ومع دعواتنا أن يكون الله قد قبل صيامنا وصيامكم؛ فإن علينا أن نستصحب هدي رمضان في شوال وما يليه من الشهور.
فرب رمضان هو رب السنة كلها، ونحن في حاجة لمضاعفة أعمال البر بعد رمضان أكثر بكثير منها في رمضان، ففي رمضان يتضاعف الأجر على الطاعات، وبعده تفعل قاعدة الثواب المعتادة لتكون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف ويضاعف الله لمن شاء بلا حد، ومع أن هذا كثير جدا وفضل عظيم إلا أن الأجر في رمضان أعظم، فعلم ثواب الصوم لا يعلمه إلا الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
لذا فإن علينا أن نكثر من فعل الخير بعد رمضان أكثر مما فعلناه في رمضان، وأول ميادين الخير التي نرتادها في شهر شوال هي صوم ستة أيام منه لنكون كمن صام الدهر كله، حيث يقول رسولنا: "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر" وصيام هذه الأيام التي أوصى بها رسولنا؛ يجوز أن تكون متواصلة في أي جزء من الشهر بعد يوم العيد الذي يحرم صيامه ولا ينعقد، ويجوز أن تكون متفرقة، المهم أن يكون صيام الأيام الستة بين العيد ونهاية شوال، مع ملاحظة أن شهر شوال يمر كأنه أقصر بكثير من رمضان، ولذا فإن من يسوّف اعتمادًا على أن ستة أيام قليلة بالنسبة لشهر كامل.
قد يجد نفسه خرج من شوال ولم يصم أيامه أو لم يتمها، فكلما عجل بصيامها كان أفضل ضمانا لعدم فواتها أو بعضها، ومن المفيد في هذا المقام تذكير من فاتهم صيام بعض أيام لعذر كحيض أو نفاس أو مرض أو سفر؛ أن يصوم ما فاته، وصيام القضاء عن الأيام التي أفطرها الصائم أو الصائمة؛ يجوز أيضًا متتاليًا ويجوز أن يكون متقطعا في السنة كلها حتى نهاية شعبان المقبل، ولا تسقط هذه الأيام إن غفل فدخل عليه رمضان المقبل ولم يصمها، بل تبقى في ذمته دينا عليه، ولذا عليه أن يقضيها بعد رمضان الذي أدركه قبل أن يصومها، وإذا كانت المرأة تنوي قضاء ما فاتها وتصوم أيام شوال في شوال، فإن الأولى أن تقدم أيام القضاء لأنها واجبة ثم تصوم أيام شوال وإن قدمت أيام شوال على أيام القضاء فلا بأس، وإن كانت تنوى قضاء ما فاتها بعد شوال صامت أيام شوال في شوال.
ولست مع الرأي الذي يجيز لها أن تصوم أيام شوال بنيتين أي أنها تصوم الأيام الستة بنيتها ونية قضاء ما فاتها، فهذه عبادة تطوعيّة والقضاء عبادة واجبة، والجمع يكون بين المتماثلين، وأُذّكر من غفل عن إخراج صدقة الفطر أن يخرجها، فهي لم تسقط بانتهاء رمضان، ولذا فإن عليه إخراجها إبراء للذمة على القول بفرضيتها كما ذهب المالكية أو بوجوبها كما ذهب الحنفيّة، ولمخرجها أن يخرجها من جنس الطعام عن كل فرد صاع وهو وحدة كيل ومقداره على خلاف بين العلماء بين 2.35 كيلو جرام إلى 3.25 كيلو جرام من غالب قوت بلد المزكي، فمثلا في صعيدنا القمح، وفي بعض محافظات الوجه البحري الأرز، والأخذ بالزيادة أفضل لما فيه من مصلحة الفقير.
وإذا كنا في شهر رمضان حرصنا على قراءة ما تيسر لنا من كتاب الله، حتى إن بعض الناس قد ختمه عدة مرات، فإن علينا أن نمنع عودة التراب إليه حتى ننفضه في عامنا المقبل إن أدركناه، وليس مهما أن نختمه في شهر أو أقل أو أكثر وإنما المهم عدم انقطاع صلتنا به، فغاية أمانينا ورجائنا أن يشفع كتاب ربنا لنا يوم نقف بين يدي الله؛ وندرك قيمة الحسنة الواحدة التي يدركها من قرأ حرفا واحدا منه قبل أن تضاعف إلى عشرة ثم أضعاف كثيرة.
كما حرصنا في شهر رمضان على صلة الأرحام بالزيارة أو السؤال ولو بالهاتف؛ وربما بالدعم المالي، وإذا كنا قد حرصنا على عفة اللسان وغض البصر، وتجنب ذكر الناس بما يكرهون غيبة، وغضضنا الطرف عن المسيئين لنا، طلبا لمرضاة الله وعدم جرح الأجر الأعلى للصيام، وإذا كنا تعودنا على سعة الأفق والصبر والحلم، والتفاني في العمل، ومد يد العون والمساعدة بصدقات اختياريّة تطوعيّة زيادة على المفروضة، وقبل ذلك كله مراقبة الله في السر قبل العلن.. فمن الجميل أن يتحول هذا إلى سلوك دائم، وبذلك يتحول الشكل العام للمجتمع المسلم، ليكون على الصورة التي أرادها له رب العالمين.