حفيد مؤسس محلات شيكوريل: مصر ذات أهمية للعالم.. ورحيلنا عنها كالخروج من الجنة (حوار)
كانت رحلة البحث عن أحد أفراد عائلة سيكوريل أو "شيكوريل" أمرًا ليس سهلًا، قد يكون استمر لسنوات، لأن شجرة العائلة مُتفرعة في كثير من البلدان، كما أنه لم يكن البحث فقط عن أي اسم يحمل لقب ”cicurel"، بل كان البحث أعمق للوصول إلى “حفيد” عاش ولو لفترة زمنية صغيرة في مصر قبل الخروج منها.
“القاهرة 24” التقى من قبل مع أحد أحفاد شيكوريل يدعى "جيليس سيكوريل"، وفي مشوار البحث وجدنا الكاتب "رونالد سيكوريل" - وهو حفيد مورينو سيكوريل بشكل مُباشر، وقضى بضع سنوات في مصر أثناء فترة طفولته، حتى أنه جمع هذه الذكريات في كتاب عن مصر.
اليوم، التقى “القاهرة 24” بالكاتب رونالد سيكوريل، والذي روى العديد من المعلومات والتفاصيل الشيقة عن القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، والتي جاءت على النحو التالي:
استهل رونالد سيكوريل حديثه قائلًا: “دعيني أخبرك أنني عشت حياة غنية ومُثيرة للغاية، لقد ولدت في القاهرة عام 1945، وبالتحديد في فندق مينا هاوس، لدي فقط ذكريات جميلة من طفولتي، والدي هو سلفاتور سيكوريل وجدي مورينو سيكوريل، كان لدي الكثير من الأعمام وأبناء العم والأصدقاء، وهناك أجواء من المحبة. كانت مصر حقًا دولة عالمية، والجميع يتحدثون العديد من اللغات ويشتركون في مزجها معًا في تركيبة فريدة جدًا من نوعها”.
وأضاف رونالد، أن الحياة ليست أبدًا كما نُخطط لها مُسبقًا، جمالها وألمها غير مُتوقع. ستكون الحياة مُملة وميكانيكية للغاية إذا اتبعت ببساطة الخطط الموضوعة مُسبقًا، يظهر لنا ما هو غير مُتوقع يفتح لنا أبواب وإمكانيات جديدة.
وأوضح، “يجب أن أقول إنني كنت محظوظًا لخوض تلك التجربة الفريدة، أعيش الآن في كلارينس، بالقرب من مونترو في سويسرا، أمام بحيرة جنيف، وتحيط بها الجبال الثلجية”.
وأكمل حفيد شيكورويل: “أعطتني الحياة ثلاثة أطفال رائعين وحفيد واحد، الآن مُتقاعد من EPFL (معهد لوزان الفيدرالي للفنون التطبيقية) قبل بضع سنوات، وأقضي الآن معظم وقتي في كتابة الكتب العلمية”.
وتابع: "عندما كنت صغيرًا حصلت على درجة الدكتوراه في الرياضيات وبحلول سن 55 بدأت دراسة الدماغ. كنت مهووسًا بطبيعة "التفكير" معظم حياتي. تحت زوايا مُختلفة، كنت أحاول أن أفهم كيف يُولد الدماغ العالم الذي نعيش فيه؟ طبيعة الواقع، كانت الرياضيات أساسًا ممتازة، لكنني كنت بحاجة أيضًا إلى الفيزياء وعلم الدلالات وأخيرا علم الأعصاب. لطالما كنت محظوظًا للغاية لمُقابلة أشخاص استثنائيين وملهمين ساهموا في فهمي لطبيعة الواقع، وعلى الرغم من تقاعدي، ما زلت عُضوًا في مجلس إدارة شركة واجهة Brain-Machine في الولايات المتحدة".
ذكريات عائلته في مصر
وفيما يتعلق بحياة عائلة سيكوريل في مصر، أوضح رونالد "لقد توفي جدي مورينو سيكوريل قبل ولادتي، وكان مؤسس "Grands Magasins Cicurel"، وأنا أفهم جيدًا أن عائلتي بأكملها كانت تتمتع بحياة مُميزة للغاية في مصر. كنا نعيش في منطقة المعادي حتى عام 1952، ولكن بعد احتراق المخازن، انتقلت الأسرة إلى شقة في الزمالك".
“وفي ذلك الوقت، كان أهم شيء لدى عائلتي بالنسبة له هو التركيز على الناحية الدراسية فقط، فكان ذلك حماية للأطفال من أي أخبار سيئة أو مُزعجة، لذلك لم نكن نُدرك حقًا ما كان يحدث حولنا، لكن خلال حرب عام 1956، كنا نسمع القصف ليلًا ونتبع تعليمات انقطاع التيار الكهربائي بعد ذلك بكثير، ومن خلال قراءة التاريخ، أدركت ما حدث ولماذا اضطررنا إلى المغادرة؟”.
وحول ذكرياته في مصر، استكمل رونالد: “بالتأكيد لدي ذكريات! شغلت مصر قلبي وعقلي طوال حياتي وجعلتني ما أنا عليه، غادرنا البلاد في عام 1957، (هل ينبغي أن أقول إننا هربنا؟)، لكن مصر بقيت في أعماق قلبي”.
وأضاف “بالنسبة لي كطفل، تركنا الجنة، وتركنا كل ما نُحب. لقد تركنا ثقافة الأجداد، وتركنا أصدقاء طفولتي، وأساتذتي، ومعظم أفراد عائلتي. تركنا العادات والتقاليد والرائحة والمشاعر التي شكلت حياتي وأعطتها معنى، يقول المثل: من ذاق ماء النيل لابد أن يتذوقه مرة أخرى. لقد أحببت الآثار المصرية القديمة، والمشي لمسافات طويلة في الصحراء، والطعام المصري، وقطارات الترام المزدحمة في القاهرة، ولطف وابتسامة الشعب المصري، وشواطئ الإسكندرية، وحفلات الصيد مع والدي في الصباح الباكر، حتى في بداية سفرنا إلى أوروبا ، بدا لي الأوروبيون مُسطحين وخاليين من أي معرفة".
معاناة الخروج من مصر
ووصف رونالد المُعاناة التي عاشتها عائلته عقب خروجهم من مصر، بأنها “مُزرية للغاية”، حيث كانت الأسرة مُشتتة ومكسورة، وكان الجميع يُحاول البقاء على قيد الحياة، ويُعتقد أنه كان وقتًا عصيبًا لجيل والديه، اللغة كانت مُختلفة والثقافة أيضًا ووجهات النظر. كان الأمر مُعقدًا للغاية، فقد شعر أنه ممزق بين الرغبة في أن يصبح سويسريًا حقيقيًا، والإدراك أن ذلك لم يكن مُمكنًا تمامًا،. فلم يتمكن قبل سن الخمسين من تحقيق السلام مع نفسه وقبول نفسه كما كان من قبل مع جوانب متعددة في شخصيته".
السنوات الأولى كانت صعبة للغاية، لكن والدي قدما الدعم والحماية من الواقع الفظ. فقد عاشوا في شقة صغيرة جدًا، كان المال محدودًا للغاية. كان بعض أفراد الأسرة لا يزالون في مصر وكان التواصل صعبًا، ولكن بعد سنوات قليلة استقر الوضع، حسب رونالد.
وأضاف أن عائلة شيكوريل تعيش في جميع أنحاء العالم، وذلك بالتأكيد خسارة كبيرة لهم جميعًا، البعض في فرنسا، والبعض الآخر في الولايات المتحدة، وفرع في البرازيل، وآخر في إسرائيل، والمملكة المتحدة، بينما تعيش أخته "جانين" في الأرجنتين، لكن مُعظمهم حققوا نجاحًا كبيرًا في الأعمال المصرفية، المالية، السياسة، الأعمال، الرياضة، و معظمهم لم يعد إلى مصر قط، لكنه زار مصر كثيرًا، وكانت المرة الأولى في عام 1987، بعد 30 عامًا من مُغادرته، فقد كان بحاجة لزيارة بلده، وكان بحاجة للتحقق مما إذا كانت ذكرياته صحيحة أم لا.
واستكمل رونالد حيثه قائلا “أنا مواطن سويسري وأحب سويسرا، وأنا ممتن للغاية لسويسرا لأنها استقبلتنا في ظروف سيئة، لكنني أشعر بأنني مُختلف تمامًا عن المواطن السويسري المعتاد وأردت أن يفهم أطفالي هذا الاختلاف، وأن أكون فخوربه. كنت بحاجة إلى أن أشرح لهم ولنفسي هذا التناقض، لماذا اضطررنا إلى مغادرة بلد أحترمه وأعجب به للغاية؟.الهجرة مُعقدة، لكن هذا التعقيد يمكن أن يكون مثريًا للغاية إذا تم وضعه في المنظور المناسب".
العودة إلى مصر
وحول زيارته لمصر قال رونالد: “لم تكن الزيارة الوحيدة، فلقد زرت مصر كثيرًا، أما عن الأماكن فمُعظمها التي كان لها أثر كبير في طفولتي مثل القاهرة، الأهرامات، الزمالك، الإسكندرية، والعجمي”.
وتابع: “لدي بعض الحكايات الشيقة. بمجرد أن اتصل بي صديق هندي من القاهرة والذي كان في زيارة لها وأخبرني أنه يجب علي القدوم، كان ذلك في عام 1997. وكان قد نظّم زيارة لمتجر والدي في القاهرة، استقبلنا الجميع حينذاك، وأوضح لي المدير أنه كان موجودًا بالفعل وعاصر والدي، أخذنا إلى الطابق الأخير ودفع بابًا مُغلقًا، كان باب مكتب والدي، لم يتم فتحه منذ 40 عامًا، وعندما تمكنوا أخيرًا من فتحه لي، كان هناك مكتب أبي وأغراضه على الطاولة، في ذلك الوقت لم أستطع التوقف عن البكاء، لن تجد هذا النوع من الاحترام في أي بلد آخر".
"مرة أخرى كُنا في سيارة أجرة مع زوجتي ليليان. طلبت من سيارة الأجرة التوقف. كنا أمام العقار الذي عشنا فيه، نزلنا أنا وزوجتي، وكان رجل عجوز جالسًا على الدرج أمام مدخل العقار، فلما رآني عانق قدمي وقال: "ابن سالفاتور"، كيف يكون ذلك مُمكنا وكيف يمكنه معرفتي بعد 40 عاما؟
ذكريات القاهرة
في سياق آخر، أوضح رونالد سيكوريل، أنه قبل بضع سنوات سألته ابنته "فاليري" عما إذا كان بإمكانه كتابة شيء يستطيع حفيده قراءته عندما يكبر، لكي يعرف من أين أتوا، فذلك أمر بالغ الأهمية لبناء شخصية المرء، لذلك كتب له كتابًا بعنوان "Mémoires du Caire، souvenirs d’un grand père juif d’Egypte."
وفقا لرونالد، فإن الكتاب يتعلق بذكرياته في مصر، وكيف غادرها، وكفاحه للتكيف مع شيء مختلف تمامًا (أوروبا)، موضحا أنه عندما غادر مصر ، كان والده يبلغ من العمر 65 عامًا بالفعل. لحسن الحظ، وجد وظيفة في متجر مُتعدد الأقسام في ميلانو، وعاشوا هناك لمدة 3 سنوات. ثم جاءوا إلى لوزان في سويسرا وحصلوا على الجنسية السويسرية، و لم يتم تجديد جواز سفرهم المصري".
وأكد أنه لديه احترام كبير لوالده الذي لم يسمعه يشتكي أبدًا، كرجل عجوز بدأ بشجاعة حياة جديدة وسمح له ولأخته بالدراسة.
نجيب محفوظ و كوكب الشرق
كما ذكر رونالد أنه من عُشاق الأديب العالمي نجيب محفوظ، قائلا: إنه كاتب رائع للغاية، وأن مطربته المُفضلة حتى الآن هي كوكب الشرق أم كلثوم
أما بالنسبة للمأكولات المصرية، قال رونالد، إن والدته استمرت في طهي الطعام المصري حتى سنواتها الأخيرة، ويبقى الطبق المفضل لديه هو "الملوخية"، وقد تعلمت ابنته الكبرى "فاليري" كيفية طهيها، لكنه أيضًا مازال يُحب رائحة وطعم الخضروات والفواكه المصرية، فلم يجد مثلها في أوروبا قائلًا: ليس هو نفسه وليس غنيًا كما اعتدنا في مصر.
وأضاف أنه يتابع كل ما يحدث في مصر، ولدي بعض الأصدقاء المصريين. ما زلت مُهتمًا جدًا بالفترة الفرعونية، ووعدت زوجتي بأننا سنزور المتحف الكبير عند افتتاحه، إذا كنت لا أزال على قيد الحياة “إن شاء الله".
الذكاء الاصطناعي في مصر
وحول أهمية مجال الذكاء الاصطناعي في مصر، أوضح رونالد: “أرى جهودًا ضخمة للتحديث في عهد الرئيس السيسي، لقد تابعت عن بُعد مُؤتمرًا حول الذكاء الاصطناعي وكنت سعيدًا برؤية المصريين الموهوبين المهتمين بهذه الموضوعات، كنت أتمنى أن أكون قادرًا على المساهمة”.
مصر وجودها ضرورة للعالم
وأكمل رونالد: “دعيني أخبرك أنني على يقين من أن مصر وجودها وتقدمها ضروري للعالم حيث أن لها قيم إنسانية ضخمة يجب نشرها، هذا صحيح بالنسبة لمعظم دول حوض البحر الأبيض المتوسط، هناك شيء يحتاجه العالم ليكون في حالة توازن، شيء حكيم ومعقول، يجب ألا تقع مصر في فخ الهيمنة المطلقة للرأسمالية المالية البحتة، وأن تُكافح من أجل الحفاظ على القيم بالتوازي مع التقدم التكنولوجي. ستكون معركة صعبة”.
واختتم “رونالد” قائلًا: “عندما غادرت عام 1957 كان عدد سكان القاهرة مليوني نسمة، هذه الزيادة السكانية الهائلة تمثل تحديًا حقيقيًا، الكثير من التعليم للقيام به، آمل بصدق أن تجد البلاد الطريق الصحيح الذي تسلكه على أساس العقل والقلب”.