ليان.. قصة قصيرة لوداد معروف
لأول مرة منذ أن تلقت منه البشرى، أنْ غدا سآتيكِ، وهي لم تنم من الليل إلا قليلا، الفرحة العارمة كالحزن العميق؛ كلاهما يطردان النوم من العيون، قضت تلك الليلةَ تحدثُ نفسَها، تبتسم لنفسها، تضيء نور غرفتها لتتمشى أمام مرآتها، تضع بعضا من طلاء شفتيها تحدد عينيها الجميلتين بكحلها الأسود اللامع، تترك كل ذلك وتفتح خزينة ملابسها، ممتلئة عن آخرها بأطقم كلها جميلة، تخلو جميعها من اللون الأسود الذي لا تحبه، بأي ثوب منكم ألقاه؟ هذا الذهبي أم الأرجواني أم ذلك الوردي؟ ولا أي منكم، فأول لقاء لي معه لن يكون إلا بهذا الأبيض الصافي كحبنا النقي، اللون الأبيض يجمع كل ألوان الطيف؛ كماجد الحبيب العنيد, اللين الحنون, القاسي المشاكس، الهادئ العاقل والمجنون في آن، هي الكيمياء التي أحببتها فيه, وسحرتني به.
هكذا مرت ليلتها الاستثنائية حتى لاح الصباح بعد ليلة طويلة، العاشرة موعدنا, وأمامي الكثير الذي يجب أن أنجزه، قبل دهشتي الأولي ...نظرتي الأولي ... رجفتي الأولى، حين تقع عيني عليه للمرة الأولى، لولا أنني وحدي في تلك العاصمة الكبيرة، لأعددت له مائدة بها أشهى الأطعمة التي يحبها، ولجلستُ أنا وهو في البلكون, نغترف من النيل ونرتوي حكايات، شقتي جميلة, واجهتها تطل علي النيل, وتحفها الأشجار، وحديث الحب يحلو، حينما ننثره حولنا، فيصل همسه للأشجار؛ فتشي به إلي النيل، ليعزفه سيمفونية تحت ضوء القمر، الذي سيكتمل الليلة.
أتمت زينتها، زادها الأبيض ألقا، رن هاتفه جاءها صوته الرخيم: ليان أنا بجوار العمارة انزلي، لم تصدق أنها أخيرا ستراه، عامان مرا علي بداية تعارفهما، منذ أن اشترت له شقته في القاهرة الجديدة، كونها تعمل في شركة عقارات، كانت محل ثقته، يعمل بالخارج تواصلت معه كثيرا لاطلاعه علي صور الشقق وشروط التعاقد، حوّل المبلغ للشركة، تممت له الأمر بيسر، لم ينته بينهما الكلام؛ بل تطور لمناحٍ أخرى, ليس فيها المال والأعمال، تعلقت به، تعلق هو أيضا بها بشدة، والآن بينها وبينه وصول المصعد لمدخل العمارة, لتراه لأول مرة. وقفت على السلم، تدور بعينيها علي السيارات الواقفة، لمحته في سيارة جيب بنية اللون، ضحكت بسعادة لم تلمس قلبها من قبل، لا تعرف لِمَ تسمرت هكذا مكانها؛ كأنما تريد أن تطول لحظة الدهشة أكثر ولا تقطعها بالهرولة إليه، لذة الحب في دهشته الأولى, ونظرته الأولى, التي تظل ذكراهما تجدده في قلوبنا, فلا يبلي أبدا, جرت عليه وبمشاكسةٍ قالت له:
- أنت ماجد؟!
- بضحكة حلوة قال: اركبي يااااااااه أخيرا أنا وأنت في سيارة وحدنا؟! وحشتيني.
- فركت عينيها غير مصدقة وقالت: لن تصدقني إذا قلت لك أكذب عينيَّ الآن أني أراك؛ فأفركهما لأشعر أنها حقيقة.
- ربت علي يدها وقال بل صدقي، أنت أول من حرصت علي رؤيته في القاهرة, أتذكرين أمنيتي التي كنت أكررها عليك دائما؟
- نعم، أن أنتظرك بالمطار لأكون أول وجه تراه حينما تعود , وأن يكون وجهي آخر وجه تودعه؛ فأكون أيضا آخر من تراه.
أمام كافيه شهير توقف بسيارته، استدار وفتح لها الباب، مد يده ليتلقى يدها فالسيارة إطاراتها مرتفعة، نزلت، تأبطت ذراعه، همس لها أنها أجمل وأكثر نضارة من الصور، همست له: وأنت أصغر وأندى من صورك التي أرسلت لي.
جلسا تكلما في كل شيء، حتى كانت هذه الجملة التي قلبت رأسها وزلزلت كيانها, ابنة عمي خطيبتي وتحدد زفافي عليها هذا الشهر، والشقة تلك هي لزواجي منها, وقفت وقد احمرت عيناها من شدة الغضب قالت:
- لم تخبرني أنك مرتبط، لِمَ تركتني أنزف مشاعري وأنت ترتب لزواجك وتتمم أمره؟ غششتني وألقيت في قلبي جمرة من لهب, مازالت متقدة بحبك؛ كيف لي أن أخمدها؛ ولو أخمدتها سيظل موضعها يدميني ما حييت.
- اجلسي فلم ينته الأمر بل سيبدأ معك.
- كيف سيبدأ معي ! عشيقة ! أتقبلها لي؟!
- لا أبدا لا أقبلها لك ولا لي، ستكونين زوجتي ضحكت ساخرة وقالت: ستزف علينا في ليلة واحدة؟! ليتني ما عرفتك، لن أسامحك على ما فعلت بقلبي.
- سأتزوجك وتسافرين معي إلي مقر عملي.
- وهي ؟!
- هي هنا تنتظرني في الإجازات، وأنت معي دائما لا ترفضي أرجوك، أرجأت إبلاغكِ حتى نلتقي كي أستطيع إقناعك وأنت أمامي وجها لوجه.
- أعرف حبك لي وتعلقك بالقرب مني وواسطتي في موافقتك هذا الحب.
نظرَتْ إلي وجهه طويلا، تأملت ملامحه التي حلمت أن تمرر يدها عليها يوما ما، ولما جاء اليوم يفجعني بشريكة فيه!! أحلامنا كناطحات سحاب عالية لا تُطال.
- مادا لها يده بعصير الليمون وهو يقول: لن أتعجلك، خذي وقتك في التفكير، إجازتي شهران وسأعود بك في نفس الطائرة، زواج رسمي لكن لن يعلمه إلا أهلك فقط، وسأعقد عليك قبلها لتكوني أنت الأولى لا هي، اعذريني ولا تغضبي عليّ؛ والدي قاسي ولن يسامحني اذا تركت ابنة عمي.
- همت بالوقوف أشارت إليه أن يغادرا، صامتة طول الطريق، لم يمل من محاولة إخراجها من ذلك الشرود، توقف أمام عمارتها نزلت أمسك يدها قبل أن تتحرك خطواتها همس: ليان لا تتركيني أرجوك، هزت رأسها ومضت.