"عروستي".. مونودراما لفاطمة الزهراء جمال الدين
النص التالي هو عمل مسرحي مونودرامي تقدمه شخصية واحدة، إضافة إلى شخصية أخرى مساندة، حيث تكون شخصيتا المسرحية هما: خضرة: امرأة فى الخمسين من عمرها، الأم: امرأة عجوز مصابة بالزهايمر جالسة في صمت على مقعد (شخصية صامتة)
أما الزمن فهو الزمن الحاضر، والمكان: شقة بسيطة يغلب على أثاثها الطابع الريفي، وفيما يلي نص المسرحية:
يفتح الستار، ويُشاهد الجمهور امرأة خمسينية ذات شعر منسدل يتخلله البياض ترتدي عباءة منزلية من القطيفة الزرقاء اللامعة المزخرفة بزهور بيضاء، جالسة على كرسي هزَّاز في غرفة تبدو أنها غرفة المعيشة، حولها عدد من الصناديق بعضها مفتوح وبعضها مغلق، يبدو خلف الأستار في الخلفية ظلال أشخاص يُغلقون صناديق أخرى، والبعض يَجرُّ أريكة .
(يسلَّط الضوء على الكرسي والمرأة، وتبدو الإضاءة شاحبة في بقية أرجاء الغرفة)
تجلس المرأة ممسكة بصورة متوسطة تنظر إليها، توقف اهتزاز الكرسي وتلتفت إلى الظلال مع صوت تحريك الأريكة:
المرأة: هيه..... أنتما إلى أين تأخذون الأريكة إنها أريكتي ... تنهض مهرولة، فزعة، فتوقفا من يبدوان خلف الستار، ولم يعد يُسمع لهما صوت، يرى المشاهد جسد المرأة يهتز، ويديها ترتفع دلالة على تحدثها بغضب، وترفع إحدى وسائد الأريكة وتأخذ شيئًا يبدو كهيئة طفل. ترتفع من المرأة ضحكة ظفر وفرح، تعود مرة أخرى إلى خشبة المسرح.
المرأة: ارحلوا من هنا، لا أريد رؤية أحد. (تتوقف، وتنظر إلى ما في يدها، تعود وتجلس على الأريكة)
آه عروستي! (وزفرت المرأة زفرة حارة): آه كانوا سيأخذونك مني.. (تحتضنها).. يا صغيرتي، أما زلتي معي؟ مضى على رفقتنا أربعون عامًا، ما زلت أتذكر يوم أن أتى بك القدر إليَّ؛ كنتُ أطول منك بربع شبر (تزم شفتيها وينعقد حاجبيها)، كلا بل كنتُ أطول بشبر ونصف، أتذكر هذا كأنه بالأمس .. (تتنهد)، أتذكرين ماذا كنا نفعل كل يوم ؟! تُمسك شعرها المنسدل على كتفيها، وتُقسمه نصفين، وتجدل طرفًا، ثم تعود إلى العروسة تُمسك بإحدى جديلتيها وتفكها، ثم تربط جديلتها الأخرى وتفك جديلة العروسة الأخرى ،تضحك بخفة ضحكة طفولية طويلة ..ناظرة إلى شعر العروسة الذى أصبح منسدلا، وأخذت تتحسس جديلتيها فى سعادة... يقطع الضحك صوت شيء يتحطم في الغرفة الأخرى،(تصرخ) أيها الحمقى .. البلهاء...، لقد كسرتم الكثير.. ألم يكفكم بعد؟! تنظر إلى ظل عجوز تظهر في الإضاءة الخافتة جالسة في ركن بعيد من غرفة المعيشة. أترين! (تشرع في البكاء، ثم تقطع بكاءها بصوت غاضب) أتذكرين قال العمدة : يا "أم خضرة" ابنتك صارت عروسة وسأزوجها لابني، أتذكرين؟ .. لقد نسيتي، أصابك داء النسيان، لكنني لا أنسى، لم تكد أنيابي تتبدل، و لم تكتمل أضراسي بعد، اصطحبت رفيقتي معي في هودج العرس، ومن أول لحظة ألقاها ابن العمدة في زاوية المنزل.. معي، ومضى إلى رفقة نارجيلة وزجاجة خضراء. أتذكرين؟! سنوات طوال والعروسة ملقاة في الزاوية تتأكلها الرطوبة، وتتنقل من زاوية إلى أخرى، لم تحتمل برودة تلك الزوايا فحملتُها وقررت أنه حان الوقت لكي أقص عليها قصة الأميرة ذات الهمة، أحبت قصتها ومضت السنوات وأنا أحكيها لها.. (تعود مخاطبة المرأة العجوز)، لم تستطع قصة الأميرة أن تجعله أميراً؛ كان فحيحه كل ليلة صراخ في عقلي، كانت كلماته تتشاجر مع أذني، كانت أوامره كشعر شاعر سيء السمعة.
قرر جسدي قبل عقلي أن يرحل، حين تمردت أمعائي على جسدي، ودخلت مشفى المركز لإجراء عملية المصران الأعور، لم أره طوال أسبوع، وكنتِ أنتِ تخبرينني إنه يأتي كل يوم ويسأل عني، (تعود موجهة خطابها إلى العروسة الممسكة بها)، لكن "أم خضرة" كانت تشيح بوجهها، وتخفيه بطرف طرحتها السوداء ... كنتُ أعلم، نعم كنت أعلم أن كلماتها سوداء مثل طرحتها، فلا يوجد كذب أبيض، وكنت في قرارة نفسي أعلم حقيقة قولها. خرجت وبقيت كالمومياء لأشهر طويلة، لم تعد الزجاجات الخضراء تفلح معه.. طوال الوقت أقرأ أورادي، أي عالم مجنون كنت أسبح فيه، وفي كل يوم أغرق دون سبيل للنجاة.. وفي يوم قررت "خضرة" أن تأخذ رفيقتها وترحل.. ألقيت الأوراق والأختام، ولعبنا لعبة الكر والفر، وطالت المساومات بين "خضرة"، وبين ابن العمدة.. أخذوا الدار والدوار.. خرجتُ تلاحقني اللعنات والويلات، نجوتُ بأعجوبة، وعبرت ضفاف القنوات القابعة في ظلام الليل أبتغي رائحة الفجر، أهرب قبل أن أُربط مرة أخرى إلى ذيل هودج عرس آخر. خرجت كمومياء مُغسَّلة، ومُكفنة تلاحقني الويلات واللعنات .. سنوات مضت وهم بالمرصاد يلاحقونني يريدون انتزاع المزيد والمزيد مني. كلماتهم طوال الوقت نعيق غراب أسود فوق صارٍ يأبى أن يغادره، نقروا عقلي وقلبي .. أيام ثقيلة وسنوات عمري عليلة كمحراث شقَّ قلبي، ظللت أدفع سنوات عمري ثمن عناد هولاء الطامعين في داري ودوَّاري( توجه كلامها إلى أشخاص ظلال سوداء تظهر فى الزاوية): أنتم كنتم وحدكم القادرين على تكدير يومي.. وسرقة أثوابي وزينتي، إنكم تبغون المزيد والمزيد.. لكن لا لن يكون الثمن اعتلاء هودج العُرس مرة أخرى .. سأظل برفقة صديقتي ... عروستي.. صغيرتي.. يعلو صوتها، تصرخ ؛ ارحلوا أيها الملاعين خذوا راياتكم العفنة المسطورة بكلماتكم السوداء. لقد خلعت أضراسي، ونخر السوس أسناني، وهاهى خصلاتي بيضاء وقدمي عرجاء، لن تنخدع عروستي مرة أخرى، فالحلوى مسمومة واللعبة مكشوفة معلولة. (تصرخ في رجليْن).. أتيا ليأخذا بعض الصناديق؛ تبدو وجوهم ممسوخة بلا ملامح، دون أعين، أو أنف، أو فم . .. ألن تتركوا شيئًا .. يا ويلكم، يا ويلي .. لقد أخذتم الدار والدوار. تعود وتمسك بالعروسة، أترين ماذا يفعلون .. لماذا تنظرين هكذا .. لست بذات الهمة .. يكيفيني أنك معي، تحملين عبق الذكرى .. لقد نسيت ذكرى من؟! أو ماذا؟! .. (تحك رأس العروسة) .. لا أعرف !! أحاول في كل مرة أن أتذكر، ولكن لا أستطيع، ما رأيك في أن نتذكر أغنيتنا أيتها الرفيقة ؟ تظهر أيدي تحاول أن تشد العروسة، (تصرخ المرأة) .. كلا .. اتركوها يا زوجة العمدة انصرفي ... كلا لن أعود ... ارحلي .. دعوا عروستي ... لن أعود، تظل تخبط بيدها في الهواء، وتمسك بيدها الأخرى العروسة تختفي الأيدي، تقول: لعنة الله عليكم .. منكم لله. تأخذ العروسة وتجلس على الأرض في زاوية من الحجرة (في ركن من خشبة المسرح)، (تلهث .. تتجمع الدموع في عينيها، تربت على العروسة) لن يأخذوك مني صغيرتى اهدأي، سأحكي لك مرة أخرى سيرة الأميرة ذات الهمة، بل .. هاه سأغني لك. (يرتفع صوت المرأة شيئًا فشيئا):
الحلم قطار إن لم تلحقه فات.
والظلم قرار إن رضيته ففيه الممات.
والعدل طريق بعيد.
تمضي فيه غريب وحيد.
(يتردد صدى صوتها مرات عدة). حُملت جميع الصناديق واختفت العجوز والكراسي من الحجرة، لم يبق سواها في زاوية الحجرة تغني، وفجأة هبطت من السقف خيوط، وجاءت أيادٍ كثيرة، تلف هذه الخيوط حول يديها .. صرخت، حاولت التخلص من الخيوط.
المرأة: اتركوني .. لا .. تشد الخيوط وتجبرها على الوقوف .. تسقط العروسة على الأرض، يظهر في الخلفية ظلال أيادٍ تمسك بطرف الخيوط .. (تصرخ)، تقف رافعة يديها كعروس "الماريونت"، كالمصلوبة! (تصرخ) .. دعوني لماذا تعاقبونني؟! لقد أخذتم كل شيء، لقد أخذتم الدار والدوار ..
(تغني بصوت تخنقه العبرات):
الحلم قطار إن لم تلحقه فات.
والظلم قرار إن رضيته ففيه الممات
والعدل طريق بعيد
تمضي فيه غريب وحيد.
الظلم قرار إن رضيته ففيه الممات.
وتبقى العروسة ملقاة على الأرض في الزاوية.