بعد رحيل الكاتب الشاب أحمد مدحت.. طالع فصلا من رواية "التئام"
حالة من الحزن سيطرت على الوسط الثقافي، بعد رحيل الكاتب الشاب أحمد مدحت فجر اليوم؛ متأثرا بإصابته بفيروس كورونا، وعبر العديد من المدونين على مواقع التواصل الاجتماعي عن حزنهم الشديد على رحيله، وفيما يلي ننشر فصلا من روايته التئام الصادرة عن دار المصري للنشر والتوزيع.
أحكمت السترة حول جسدي، ووقف أتأمل تفاصيل ملابسي في المرآة كما هي العادة ضمن سلسلة من العادات لا أغيرها قبل صعودي للمسرح.. أطلق زفيرا طويلا، وبدأت أراجع النقاط التي جهزتها للكلام عنها خلال حفلة اليوم.. مجموعة متتالية من الكلام فارغ المضمون حلو الشكل كالعادة، فهذه الخلطة لا تخيب أبدا.
أبتسم بمرارة ساخرا من نفسي في المرآة، ها هي ليلة جديدة تمر على الرجل الوحيد الذي أصبح قدره أن يعبر صراطه كل يوم محملا بذنوب يعرفها جيدا، يخوض ذات الاختبار كل يوم ويرسب، ويسقط، يحاول التوازن في كل مرة، لكن نصل الصراط يعرف جيدا ثقل خطاياه، ألم يكتب الله تجربة السقوط على العصاة مرة في الآخرة؟
فلماذا أخوضها كل يوم؟!
بدأت في ضبط ملامح وجهي أمام المرآة.. المرآة شيء صادق بقدر كذبها؛ فهي تمدك بصورة مطابقة للزيف الذي تحاول رسمه لنفسك أمام الناس، شريك الحقيقة التي تحاول أن تظهرها كحقيقتك، بينما جوهر حقیقتك يقبع هناك في الداخل، في أحراش نفسك المظلمة التي نخشى مواجهتها.. هل يمكن أن يواجه المرء وحشا أبشع من نفسه؟
رسم ابتسامة الثقة إياها، وبدأت أحرك شفتي كأنني أتكلم دون أن أخرج أي صوت من حنجرتي.. لو كنت مراقبا وتم تسجيل فيديو لي لظن من يشاهده أنني مجنون، لكنه جزء من الإعداد، جزء أساسي من العرض الخادع الذي أقدمه.. أبيع الناس مظهرا جذابا واثقا لامعا، يجب أن يروا في كل ما يعجزون عن أن يكونوه، كل أحلامهم المؤجلة، لا مهرب من أن أكون الصورة التي تقنعهم كل يوم أنهم يجب أن يكونوها؛ كي يكونوا ناجحين ومكتملين وسعداء.. نعم، السعادة الآن لها صورة.. أنا صورتها، صورة للسعادة والنجاح.. وجوهر تعيس..
لا أدري
وحديث التعاسة ليس هذا وقته.. موعد صعودي يقترب، وليس هناك مجال للكلام عن تراجيديا النفس هذه.. بدأت أضع لنفسي مكیاجا خفيفا جدا، خاماته غالية أحضرتها بنفسي من باريس خلال زيارتي الأخيرة؛ ليداري الهالات السوداء اللعينة التي تحيط بعيني، وهذا ليجعل لون بشرتي متناسقا في تجانس کنجوم السينما.. أفعل كل شيء لنفسي بنفسي، لا أثق بأحد؛ فلا أحد يلعب دوري في الحياة يرغب في أن يخونه أحدهم، ويخرج للعلن يعلن أن النجم الصاعد الأنيق ذا الابتسامة الساحرة الذي تتهافت عليه الفتيات؛ يداري عيوب ملامحه وآثار الأرق بمساحيق التجميل.
آه.. كدت أنسی! هذا الجرح اللعين في رقبتي، والذي صحوت اليوم لأجده يطالعني في رقبتي.. دققت في المرآة صباحا، وتساءل عن مدى الغل الذي اكنه تجاه نفسي حتى أحدث بجسدي جرحا كهذا خلال نومي.. وضعت المزيد من المسحوق المتخصص في إخفاء مثل هذه الجروح، وإمعانا في التدقيق، رفعت ياقة القميص قليلا لتغطي ما يمكن من رقبتي.. وتأملت نفسي للمرة الأخيرة جسد ممشوق حرصت دوما على إثقاله بممارسة الرياضة بانتظام، وملامح حادة جذابة، حتى فكي السفلي البارز قليلا يتناسب مع أنفي الحاد المنحوت في شموخ.. أبدو كواحد من أبطال الإغريق كما أخبرتني يوما ما.. ابتسمت في سخرية وأنا أقول في سري "لكنها لم تخبرني أنها تحب أن تدوس أبطال الإغريق بقدميها الرقيقتين"۔
دق الباب في تهذيب ليخبرني أحد منظمي الحفل أن ميعاد خروجي يحين خلال دقيقة.. أجبته بصوت عال في حسم أنني جاهز وسأخرج، لكن كل شيء انقلب فجأة وأنا أستدير بعيدا عن المرآة.
أراه أمامي، أراه يحدق في عيني بتصميم، يطالعني بنظرة يمتزج فيها الحزن بالتسليم، ها هو يطالعني عبر المرآة من الجهة الأخرى، مسخ يشبهني في الملامح، كأنه أنا لكن الدماء تغطي ملابسه وجرح عميق يبرز في صدره عند موضع القلب. اللعنة ككل مرة، يبدأ لحم وجهه في التساقط، أحاول إبعاد عيني عن المشهد، أغمضهما بعنف لكنه يأتيني في ظلام الإغماض أيضا، يمد يدية باللحم المتساقط تجاهي، ودموع البكاء تنساب على وجهه المشوه، أحاول الخروج من هذا الكابوس، صدري يضيق، صار التنفس أمرا صعبا ثقيلا، دقات قلبي تتسارع بينما أسقط على ركبة واحدة
انساب بطيئا لأذني صوت الدق على الباب، دق حاسم على الرغم من تهذيبه، وصوت نفس الشاب يخبرني: "يلا يا نجم هنعلن عن خروجك للناس".
حاولت التماسك، ونهضت واقفا بصعوبة.. استندت على الكرسي الموضوع أمامي، وأخيرا استقامت قامتي.. عدلت ملابسي بخفة، ومسحت حبات العرق النابتة على وجهي بهدوء كي لا تفسد كل مجهودي السابق في وضع المساحيق.. بدأت أتنفس بانتظام وأنا أفكر أن ما يحدث لا بد له من حل کي يتوقف، لم أعد أطيق الحياة بصحبة كوابيس الصحو اللعينة هذه؛ فلو استمر الحال هكذا ربما أنهي حياتي في لحظة يأس، وهذا مصير لم أتخيله لنفسي بالرغم من استهتاري الدفين بكل شيء
رسمت ابتسامة الثقة للمرة الأخيرة أمام المرآة، ثم في تشغيل الكاميرا الصغيرة التي أحملها دوما معي في كل مكان أذهب إليه، وأتركها لتسجل ما يدور في الغرفة في غيابي.. "غرفة لها باب بقفل أحضره معي ومفتاحه الوحيد يكون معي".. هذا هو شرطي الأساسي بعد إتمام الاتفاق المادي في أي حدث أشارك فيه.. والجميع يوافق، حتى من لا يمتلك غرفة لها قفل، يقوم بإعداد التجهيزات.. تفاصيل صغيرة كهذه علمتني مع الوقت أهمية أن تفرض على من تتعامل معه نفوذ السيطرة
تأكدت أن الكاميرا تكشف زوايا الغرفة كلها، وتسجل
علمتني الحياة أن ثقة الإنسان في إنسان مثله هو أغبى تصرف يتوارثه البشر عبر الأجيال في زهو عجیب، ثم يعودون باکین عندما يطعنون في ظهورهم.. أثق بالأشياء المادية، الأجهزة لا تجيد الكذب، تخلص لمن يملكها، أما البشر فلا يخلصون إلا لانحراف رغباتهم.
فتحت باب الغرفة أخيرا، ثم سلم بود على الشباب المنظمين للحفل.. أسمع من هنا ضوضاء الحضور، وأرى في عيون الفتيات في الكواليس من حولي نظرات الإعجاب المنبهرة التي اعتدتها .. طلبت مني إحداهن التقاط صورة معي، فوعدتها بها بعد الحفل.. وعد لن أنفذه بالطبع.
ألقيث كل هذا خلف ظهري، حتى صورة المسخ الذي يشبهني طردتها من بالي بعد أن حاول أن يطالعني مرة ثانية، فالآن لدينا أمر أهم.. سأرتقي درجات المسرح، وسيفتح الستار عدلت ملابسي للمرة الأخيرة، وصعدت درجات الكواليس جريا، وأنا أبتسم في ثقة، لكن ألمًا كان يعتصر قلبي، وتجاهلته وانطلق التصفيق لي من الحضور الآن يبدأ العرض.