نحو اللاشيء.. قصة قصيرة لمحمد السيد الدمشاوي
جلس على حافة النهر مشدوها يحدق في الأفق البعيد، ظل يرسل النظر إلى هناك، استبد به الأفق البعيد، سلب عقله وقلبه وروحه بعد أن سلب بصره حتى تماهى معه وانصهر فيه.
لاحظ الناس طول مكثه في المكان، تعجبوا من نظره الذي لا يتحول، ومن كفيه المتشابكتين في جمود، ومن جسده المثبت في جزع شجرة كبيرة كأنه أحد جذورها العتيقة.
دفعهم الفضول إلى رؤية ما ينظر إليه؛ فظلوا يحدقون في الفضاء البعيد، لم يجدوا شيئًا، لكن فضولهم لم يقنع بعد.
أخذوا يدورون حوله ويتفحصون جسده، لكنه لم يشعر بهم؛ فقد تثبتت عيناه في ذلك البعيد، في اللاشيء.
حاروا في أمره، تساءلوا فيما بينهم، وجهوا أبصارهم مرة أخرى تجاه ما ينظر إليه فلم يجدوا شيئا، وضعوا أيديهم أمام عينيه فلم يرفّ جفنه، ولم يتحول بصره، وظلت عيناه شاخصتين دون حراك .
أخذوا يتناوبون على السخرية والنيل منه، حاول بعضهم تحويل وجهه إلى ناحية أخرى فلم يفلح، زادت سخريتهم، وقست أياديهم !
ضحكوا بقسوة حينما أبصروا دموعا تتساقط من عينيه دون أن يرفَّ له جفن، ثم ضحكوا من أنفسهم .
عند الغروب تقاطعت الشمس مع الخط الواصل بينه وبين الأفق البعيد، ظنوا أنها لحظة النهاية، تجمعوا بالعشرات وكأنهم يتابعون ظاهرة كونية غريبة، حبسوا أنفاسهم، ترقبوا في صمت، لكن الشمس ما لبثت أن غابت واختفت، وما زالت عيناه مثبتتين نحو اللاشيء .
حضر الليل بظلامه الدامس، أدركوا أنه سيمحو خط التواصل بينه وبين البعيد، لكنّ الليل لم يفلح في ذلك، وظلت عيناه شاخصتين دون تحوّل ولا التفات.
ظن بعضهم أنه قد مات، تحسسوا صدره ويديه، أدركوا أن دورة الحياة ما زالت تعمل بانتظام داخل جسده النحيل، أصابهم الملل فرحلوا.
في صباح اليوم التالي عادوا إلى المكان فلم يجدوه، أخذتهم الدهشة طويلا، ثم غلب عليهم الضحك، قال بعضهم ساخرا: أخذه البعيد، وقال آخرون: إنه ضاع في اللاشيء، وقال فريق ثالث: إنه عاد لبيته ليلا بعد أن أمسك باللاشيء وقبض عليه !
أسرعوا إلى بيته، وجدوا البيت مفتوحا وفارغا من كل شيء، بحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوا له أثرا، لكنهم لم يجدوا النهر في مكانه، تذكر بعضهم أن النهر لم يكن موجودا في ظلام الليل، وأنَّ انشغالهم بالبعيد لم يجعلهم يدركون تلك الحقيقة .
تفكروا كثيرا في الأمر، أدركوا أن هناك شيئا جديدا سيحل بالمكان بعد زوال النهر، حملقوا في القادم المجهول، استبد بهم الأفق البعيد فسلب عقولهم وأبصارهم، حاولوا أن يستردوا عيونهم فلم يفلحوا، ظلت أعينهم شاخصة نحو المجهول، نحو اللاشيء.