بعد رحيله اليوم.. طالع قصة "الحية" لسعدي يوسف
رحل عن عالمنا الأديب والشاعر العراقي سعدي يوسف عن عمر 86 عاما بعد صراع مع المرض ليترك ذاكرة حافلة بالعطاء الشعري والإبداعي، في مجالات متنوعة منها الشعر والقصة والترجمة، وفيما يلي قصة له بعنوان "الحية" من مجموعة "نافذة في المنزل المغربي":
- يا سعدي!
إنه صوته بلا شك، صوته هو بمخارج حروفه الصافية، ونعومته ، ووقاره المبكر ، ومرحه. زید بن صقر . رجل في الثانية عشرة. إن عينيه تطلان حتما، الآن، من الباب الصغير المثبت في الباب الكبير، عينيه السوداوين حتى التفحم، اللامعتين حتى الماس.
ما الذي يريده مني زيد بن صقر في هذه الساعة المبكرة؟
الدوام يبدأ بعد ساعتين، وأستطيع أن أنام ساعتين إلا ربعا، مستنفدًا بقايا الفجر الصحراوي البارد.
فتحت عيني بعدم إخلاص .
كان الشعير الأخضر الذي زرعته حين بدأت أولى الأمطار تزور ساحة البيت الرملية... يهتز، والبئر المرة في الجانب الأيمن من البيت ما تزال مغطاة بقطعة الخشب ذات الحروف اللاتينية السود الكبيرة. كانت النسمات باردة حقا، وأغمضت عيني.
- يا سعدي!
غمغمت، وعيناي ما تزالان مغمضتين: ما الذي يريده زيد بن صقر؟ ما الذي بريده في هذه الساعة؟
حين جئت هذه القرية قبل ستة شهور، كان زيد بن صقر أول من تحدث إليَّ. لقد وصلت القرية ظهرًا، وكنت أبحث عن بيت المدير، بعد أن وجدت المدرسة مغلقة وراء باب حديد تنفتح عليه حديقة صغيرة شاحبة الخضرة، وكان الشارع خاليًا، إلا من الشمس، والريح، والرمل، والجدران غير المصبوغة، والسيارة. والسائق، وحقيبتي، ونظراتي القلقة. وفجأة رأبت زید بن صقر، أمام، مبتسما.. يلهث قليلا، كان وجهه أقرب إلى الطول، وكانت كوفيته شديدة البياض، تعطي وجهه شيئا من استدارة. لقد هبط زيد بن صقر من الجدار بخفة طائر، مثيرا غيمة صغيرة من الغبار.
- أعراقي أنت؟
- نعم.
- أنا زيد بن صقر.
- نعم
- وأنت؟
- سعدي.
- المدير ما هو بالدوغة
- وين راح؟ - هو وجماعته راحوا بالسيارة.
- منی يرجعون؟
- طلعوا للقنص.
ولا أدري كيف اختطف زيد بن مقر حقيبتي من السيارة، راکضأ بها. إلى أقرب بيت.
وحينما عاد إليَّ كان يضحك بنعومة، فارغ اليدين: المدير بالبيت يسلم عليك.
- يا سعدي!
- يا سعدي!
وأغمضت عيني . شعرت بالوسادة صلبة. تمددت عليها قليلا. كانت هبات النسيم ما تزال باردة، وكنت أحس بصفاء وهدوء لا حد لهما، وبهبات نسیم باردة على جبيني، وفتحت عيني حانقًا، ما الذي يريده مني زيد بن صقر؟ ما الذي يريده هذا اللعين؟ ونظرت إلى ساعتي، وعيناي نصف مغمضتين.
لقد بقيت ثلاثة أرباع ساعة على بدء الدوام. فکرت بالنهوض من الفراش، والذهاب إلى الباب، حيث يقف زید بن صفر مناديا. كانت النسمات الباردة ما تزال تهب، وجبهتي التي بدأ العرق ينبت فيها تثمل ببرودة نادرة، وكنت مسترخيا أشعر بصفاء ناعم، بارد، مثير، مسكر.
حدثني زيد بن صقر مرة عن القنص، قال لي إنه يذهب مع أبيه وأشقائه کثيرًا إلى القنص. ومع أنه يحب طرد الغزلان إلا أنه يحب أيضا اقتناص حيوانات صحراوية أخرى، وخاصة الضب. إنه يعرف الطريقة، ويكتشف بسهولة، مكامن الضب ومساربه.
جاءني بضب يوما، وفي اليوم التالي جاء بضب ثان، فثالث، فرابع، حتى أصبحت ساحة بيتي الرملية مزرعة للضباب، وحتى فكرت جديًّا، بأن أؤلف كتابا عن عادات هذا المخلوق الأصفر القاسي.
- با سعدي!
-.........
- با سعدي!
كان صوت زيد بن صقر يخزني كإبرة حادة.
وقفزت غاضبا من الفراش، وأسرعت راكضًا إلى الباب، وهناك كان زید بن صقر، يبتسم ماكرًا. ويداه خلف ظهره.
- ماذا تريد با زيد؟
وفجأة. انطلقت يداه من وراء ظهره. ونظرت مرتعبا إلى التماع جلد الأفعى القريب من الصفرة. كانت الأفعى تحاول الالتفاف على يده اليمنى الممسكة بالرأس المثلث، بعد أن أطلق ذنبها من يده اليسرى
- لقد اقتنصت لك هذه الحية.