أحداث ما قبل الرصف.. قصة قصيرة لإبراهيم معوض
هل تبدل الطريق؟ لقد صار ممهداً مرصوفاً، يبدو أن عمال الرصف قد دفنوا ذكريات الطفولة وأحلام الشباب تحت كتل الأسفلت الثقيلة، كان ترابياً يعفر منا الأقدام والثياب في بؤونة، وفي أمطار طوبة نلهو بطينه اللازب وكأنها رحلة فوق سطح القمر، يتحول إلى بحيرة يملأها البط الآدمي، ونداءات الأمهات تطاردنا من الشرفات كي تبيت بنا في أعشاش دفيئة.
في كل مرة كانت تهددني بالضرب إن فعلتها ثانية، وفي كل مرة أعتذر وتسامح، تبدل لي ملابسي وهي ترفع فوقي اللحاف مثل قبة، تدغدغ باطن قدمي وهي تلبسني الجوارب الصوف التي غزلتها على ضوء لمبة الجاز، ودائما تكون كبيرة متهدلة وكل مرة أسأل لماذا؟ وكل مرة تجيب حتى تكبر فيها، أتعجب: أنتِ والصوف والإبرة موجودون بعدما أكبر؛ فلما استباق الأحداث، تبتسم وتزيد من دغدغتها لباطن قدمي وتقول: الصوف والإبرة نعم أما أنا فربما، فأخاف من ردها وتخشع عيوني للبكاء، ولكن الضحك يغلبني، فتلفني بطرف اللحاف ورأسي على فخذها تعبث بأناملها في شعري، فينسكب الأمان في أحشائي كسائل فأسكن حتى تقص لي حدوتة المعزات الثلاث، فأنام قبل أن يموت الذئب.
صار الطريق ممهداً مرصوفاً، كبرت أقدامي وصرت أرتدي الجوارب البولستر الجاهزة، ضاعت الإبرة وتشابكت خيوط الصوف وضعف بصر أمي، وطار البط الآدمي فاراً نحو الخليج وأوروبا، والأمهات لم تعد قادرات على جمعهم، فالأطباء قد منعوهم من الحركة ومن النظر من الشرفات، تطاولت البيوت مثل المردة الحمراء، وغاضت الجداول وانحسرت الحقول أمام زحف البيوت، واختبأ الصفصاف والجميز تحت صبات الأسمنت كما اختبأت بقايانا تحت كتل الرصيف.
أين فانوسي القديم؟ أين حصان الحلاوة؟ الذى كان يكبر معي كل عام، حتى امتطيته وذهبت به إلى مولد الدسوقي وخرج الدراويش من خيامهم يلوحون لي برايات خضراء؛ حين ظنوني الخليفة؛ وقتها كل الأحلام كانت مباحة، مررت بمدرستي تطاول بنيانها وزاد عدد الفصول، يبدو أنهم أزالوا أشجار الفناء بأسمائنا التي حفرناها علي لحائها بأطراف البراجل، لم يعد لنا أثر على الإطلاق؛ استغلوا فرصة غيابنا وعاثوا في تاريخنا فساداً وتجديداً، صار الجرن موقفاً للسيارات حتى نسي أسمه القديم.
- مات السقا والمسحراتي، قالها السائق بكل بساطة وأنا أسأله عنهما، تمدنت القرية بالمحمول والدش، اختفت السواقي من رؤوس بقايا الغيطان، مات أبي وتغير كل شيء، وكأن منابع الخير قد جفت حياة أشبه بالفاكهة البلاستيكية، أسرعت الخطى كي أدفن رأسي بين أحضان أمي لأعود بذاكرتي معها لأحداث ما قبل الرصف، ضحكت نفس ضحكتها القديمة وضمتني بأذرع واهنة وأنا أطالبها أن تقص عليَّ قصة المعزات الثلاث ووعدتها ألا أنام هذه المرة إلا بعدما يموت الذئب.