الرنات الإسلامية!
مع انتشار الفضائيات الدينية، بدأ الاهتمام من جانب البعض في تحديد مصادر دخلها.
الشاهد أنه تبيّن أن بعض هذه القنوات يحقق أرباحـًا خيالية من الإعلانات وطلب المساهمات والعائد من رسائل SMS والتي تحتل كل الشاشات. وتتفنن هذه القنوات في وجود أكثر من شريط على الشاشة أو من خلال الهاتف المحمول (الموبيل)، عن طريق تقديم خدمات الرنات الإسلامية، والهاتف الإسلامي، والشعارات، والخطب على الهاتف المحمول. كثير من هذه القنوات أصبحت تتسول المزيد من الأموال، بأن وضعت أرقام هاتف للتبرع وأرقام حساب في البنوك للمساهمات، بل الأدهى من ذلك أن بعض هذه الفضائيات تضع رقم هاتف لتحويل الرصيد على الهواء مباشرة.
هكذا تحولت عشرات الفضائيات الدينية إلى حروب، وشعارات، وغنائم، وجني أموال على حساب البسطاء.
ومن الملاحظ قيام بعض القنوات الدينية بتخصيص كامل وقتها وأنشطتها لتحقيق أهداف تجارية بحتة استغلالًا لعامل الدين الذي يجذب كثيرا من الفئات المجتمعية في مصر والعالم العربي، ومن هذه القنوات ذات الأهداف التجارية البحتة والفجة قناتا "الطب النبوي، والحقيقة، وغيرهما".. والقنوات النصية الثابتة التي تبث إعلاناتها وموضوعاتها التجارية على خلفية تلاوات قرآنية أو دروس دينية مثل قنوات "البارعة، وعراب، وعالم حواء، وصدى الإسلام، وروح، وريحانة.. وغيرها".
الثابت أن هناك عددًا كبيرًا من القنوات الدينية يخدم توجهـًا أيديولوجيـًا معينـًا، ويبتعد عن دورها التأطيري، ليتبنى توجهات سياسية بعينها، ويحاول أن يدافع عنها ويبحث لها عن مسوغات شرعية، وبذلك تصبح هذه القنوات أبواقـًا للدعاية السياسية أو المذهبية أو الطائفية، ما يتنافى مع دورها التربوي. وحتى تؤدي القنوات الدينية دورها، فإنه ينبغي عليها أن تظل في إطار الوعظ والإرشاد دون التأثر أو الخلط بين ما هو ديني أو سياسي.
لولا وجود نسبة مشاهدة لمعظم تلك القنوات لما استمرت، كما أن كلفة التسيير المالي أصبحت منخفضة ويمكن تغطيتها عن طريق المردود المالي الذي تحققه معظم هذه القنوات بما يجعل منها مشروعـًا تجاريـًا مربحـًا.
وعوض أن يُساهم البث الديني في التوعية بأمور الدين والدنيا، فإن الذي حدث هو تفادي تلك المهمة تمامـًا، والقيام عوضـًا عنها بإنشاء "سلطة دينية" موازية للسلطة تضغط على المجتمع هي الأخرى. ذلك أن تلك القنوات وجهت "طاقتها التغييرية" باتجاه المجتمع الذي أرادت أسلمته وزيادة منسوب التديّن فيه. ولأن هذه القنوات الدينية حصرًا، وكذلك البرامج الدينية على الفضائيات الرئيسة، مزدحمة برجال الدين والدعاة الذين يتبنون أسلوبـًا وعظيـًا وفوقيـًا في إرشاد مشاهديهم، فقد آلت الأمور إلى قيام وتعزيز "أبوية دينية" أو "أبويات دينية" تتنافس في إعلانها احتكار الحقيقة، وليس في إعلانها عن نفسها كجزء من كل متنوع.
مسألة أخرى ترافقت مع البروز الشديد للقنوات الدينية هي انتقال التنافس والصراع السني الشيعي إلى الأثير، حيث تمترست كثير من تلك القنوات في خنادقها الطائفية. كثير من هذه القنوات تبث مواد دينية "مسالمة" تُعنى بالوعظ الديني والأخلاق وسوى ذلك وتبتعد عن الشحن الطائفي، لكن الأقلية منها والتي تتوتر طائفيـًا أدت إلى نقل الخلافات المذهبية والطائفية إلى "الحيز العام". فبعد أن كانت تلك الخلافات وعلى مدار قرون محصورة في دوائر ضيقة من العلماء ولا تتعدى بطون الكتب إلا قليلًا، أصبحت الآن "قضية عامة" يخوض فيها الجميع حتى الجهلاء ويتم من خلالها رسم الحدود المذهبية والطائفية الفاصلة الواضحة. ثمة أفكار وأسئلة أخرى كثيرة في هذا السياق، ولعل بقية تكون للحديث.