"خريف العمر إلا قليلا".. قصة قصيرة لمحمد محمود غدية
يراها كشجرة مثمرة فى حديقة كل أشجارها ذابلة الأوراق غير مثمرة ماعداها عدم، يجلس على شواطئ العمر بالساعات، يراقب أمواج السنين وعواصف العمر، سنوات عشر على رحيل زوجته، التى كانت تغمره بالحنان، وتغرس الزهور فى حدائق أيامه، تكثفت العتمة بين ضلوعه، عبثا يحاول نسيانها، كيف وهى تمشى فى دمه! فى عينيه دموع تستعصى على النزول، سمائه ملبدة بغيوم لا تمطر، وأرضه عطشى.
طوى الليل حقائبه وانصرف، عاد للمنزل وحيدا يتأمل ذلك العنكبوت الذى ينسج بيته فى ذاوية الغرفة بدأب وإصرار، سأل نفسه ماذا يحدث لو هدم بيت العنكبوت؟ سيعود ثانية لبناء بيت جديد، مؤكدا فلسفة الحياة التى لا تتوقف أمام كوارث الدهر، ولأول مرة يضع فلترا يصفى به الكدر، ويفتت الصدمات، غفى قلبه واستراح قليلا، نسي البن الذي يغلي في القدح فوق مكتبه، وراح يتأمل ابتسامة زميلته كإشراقة الشمس، كأنه يراها للمرة الأولى، وهى التى طرقت بابه كثيرا دون جدوى، وقتها كان قلبه غاطسا فى السواد، ابتسم حين تذكر ما قالته لزميلتها عنه: لو كانت لى عيناه ما أطبقتهما قط! التقت عيناهما فتعانقتا وتبادلا الإبتسام، تساقط عليهما مطر لا يرى بلل المشاعر، إنهما فى مساءات العمر إلا قليلا، أحزانهما متشابهة، زوجها تزوج بأخرى فى بلاد الغربة، واتفقا على انفصال هادئ بعيدا عن أروقة المحاكم، راغبة فى مسح غبار السنين عن ردهات العمر، وهى تحب الخمسينى فى صمت، تكاثف حبها بعد. وفاة زوجته، ذلك الحب الذى لم يستشعره، كلاهما يعيشان الفقد والوحدة، يرتشفان الهم على مهل قطرة قطرة، كيف للشمس ان انبثقت فجأة، وأشاعت البهجة والدفء؟
لديه الكثير من الكلام الذى لم يقله، نبهته ضاحكة لقدح القهوة الثالث الذى لم يتناوله، وكأنها ألقت حجرا حرك الركود وأشعل الإنطفاء وفجر خمود البركان، هى تماثله فى السن تحمل بقايا جمال، حالمة وسنانة ندية، أشبه بواحة صغيرة، تلمع فيها المياه وتتراقص الظلال، نشيخ حين نتوقف عن الحب، تصبح الحياة باهتة لا طعم لها، كورق يابس تكنسها ريح الأيام، الحب يرقق المشاعر ويفرض الإشتياق، كشوقنا للملح فى الطعام، عيناهما قالت الكثير دون كلام، وإقتربت بينهما المسافات، وحلقا فى أجواء فردوسية صناعاها ليهدما كهوف الوحدة، ويبددا معا خريف العمر.