الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

كرة القدم في الأدب المصري.. مصطفى بيومي يقدم عبدالرحمن الشرقاوي نموذجًا

غلاف الكتاب
ثقافة
غلاف الكتاب
الأربعاء 16/يونيو/2021 - 11:08 م

أصبحت كرة القدم كالأفيون بالنسبة للشعوب، لا يمكن عدم لعبها أو على الأقل لا يمكن تجنب الخوض فيها، فعشاق الكرة المصرية ينتظرون بشغف مباريات كرة القدم ويترقبون نتائجها، وتكثر التكهنات التي تكون متفاوتة ومختلفة حد التضارب بين المبالغة في توقع النتيجة بين الفوز الكاسح أو الهزيمة المنكرة، كما تتباين ردود الفعل بعد المباريات.

في كتاب "كرة القدم في الرواية المصرية" للكاتب الصحفي والروائي والناقد مصطفى بيومي، يرصد فيه معالجة الأدب لظاهرة كرة القدم، ومنهم عبد الرحمن الشرقاوي الذي أفرد له فصلًا في الكتاب جاء فيه: روايات عبدالرحمن الشرقاوي الثلاث، التي تدور أحداثها قبل ثورة 23 يوليو 1952: "الأرض" و"قلوب خالية" و"الشوارع الخلفية"، تخلو من التطرق إلى كرة القدم وأنديتها، لكنها تتوقف أمام الاهتمام الكبير بالمنافسات الرياضية بين كبريات المدارس الثانوية في منتصف الثلاثينيات، كما تشير "الشوارع الخلفية" في مواضع غير قليلة.

 الشباب والكبار ينهمكون في الصراعات السياسية والمناقشات الوطنية، ويهتمون بالقراءة والمسرح والسينما. لا يعني هذا غياب اللعبة الشعبية عن نسيج الواقع المصري قبل الثورة، لكن الالتفات إليها والانشغال بها ليس طاغيًا، ولا يمثل ملمحًا بارزًا في خريطة الحياة اليومية.

بعد الثورة وما يترتب عليها من تراجع المشاركة الشعبية في العمل السياسي، جراء إلغاء الأحزاب وهيمنة التنظيم الوحيد الرسمي شبه الحكومي، من "هيئة التحرير" إلى "الاتحاد الاشتراكي" مرورًا بـ"الاتحاد القومي"، ينجذب قطاع كبير من المصريين، والشباب تحديدًا، إلى اللعبة المثيرة، ويجدون فيها متنفسًا يعينهم على ملء الفراغ والشعور بالانتماء إلى كيان يتجاوز الذات، ويتوافق ذلك مع تصاعد المتابعة الصحفية لكرة القدم وأنديتها ولاعبيها، بحيث ينقسم الشعب بين حزبين كبيرين: الأهلي والزمالك.

في "الفلاح"، رواية الشرقاوي الوحيدة التي تعبر عن الواقع المصري في ظل نظام ثورة يوليو، حيث تدور أحداثها سنة 1965، يقدم الروائي شهادة مهمة يكشف من خلالها عن تنامي وصعود شعبية كرة القدم على نحو غير مسبوق، ويتبلور ذلك التصور في إطار سلبي الغالب عليه موقف الاستياء والاستهجان والإدانة.

في الصفحات الأولى، يستعيد الراوي ذكرياته مع فندق شبرد، ويستدعي الإهانات القديمة التي يتعرض لها مع ابن عمه عبدالعظيم بعد دخولهما المكان الأرستقراطي المحظور على الفقراء والفلاحين، وصولاً إلى الطرد بالقوة والاحتجاز في قسم الشرطة. تُستعاد الوقائع القديمة في واقع مختلف، لا وجود فيه للمقر المندثر: "والأرض التي كان يحتلها شبرد أصبحت الآن ملعب كرة يقلد فيها أبناء الحي نجوم الكرة الكبار الذين يقرأون عنهم في الصباح والمساء".

نجوم الكرة، في العهد الثوري ذي التوجه الاشتراكي، هم الأشهر والأعظم انتشارًا وذيوع صيت في منتصف الستينيات. الاحتذاء بهم وتقليدهم شائع عند الشباب الذي يجد فيهم القدوة والمثل الأعلى، والسر كامن في الصحافة التي لا يتوقف حديثها عن هؤلاء اللاعبين النجوم والإشادة بهم.

الفلاحون، المعذبون بالمعاناة والقهر وفساد الأجهزة، يتهمون سكان العاصمة بالانفصال عن واقع الشقاء الذي يكابدونه، ويذهبون إلى أن حياتهم ليست إلا كرة القدم والفساتين القصيرة والعربات الفارهة. في سياق المباهاة والفخر بلوحات تلاميذ القرية، التي تنم عن الوعي والالتزام الاشتراكي، يعلق واحد من الفلاحين بسخرية لاذعة على الاهتمامات المغايرة لتلاميذ "مصر"، القاهرة، فيقول في نبرة تهكم: "تلاقيهم بيرسموا مباريات الكورة.. ما هي دي البيئة المحلية بتاعتهم.. احنا عندنا السجر والبهايم والمحاريث والجرارات والفوس.. وهم عندهم الكورة والفساتين القصيرة والبهوات والعربيات آخر مودة".

لا ينتهي الصراع القديم بين القرية والمدينة بعد ثورة يوليو، ولا تخف حدته، وتبقى القطيعة وسوء الظن المتبادل والاختلاف الجذري في طبيعة المشاكل والهموم. الجديد المثير في خريطة الصدام، مقارنة بما كان سائدًا في الثلاثينيات والأربعينيات، يتمثل في الأسلحة الجديدة للمدينة: طغيان شعبية كرة القدم، انفلات النساء واستهتارهن من منظور أخلاقي، الثراء الفاحش لطبقة جديدة لا تختلف في سلوكها المتعجرف المتعالي عن الطبقات التقليدية المهيمنة إبان النظام "البائد" قبل الثورة!.

لا تنجو القرية مما يؤخذ على العاصمة والمدن من إسراف متطرف في متابعة مباريات الكرة والانشغال بها عن الجاد الخطير من القضايا والهموم التي تتعلق بجوهر الحياة المادية، ففي اجتماع وحدة الاتحاد الاشتراكي للقرية التي ينتمي إليها الراوي، تتجسد شعبية كرة القدم وتأثيرها الملموس على عدد لا يُستهان به من الشباب. ينهمك المدرس الثوري عبدالمقصود في حديث حماسي عن المخالفات الجسيمة للمشرف الزراعي وكيفية التصدي لانحرافاته، ويسود الصمت قبل التصويت على الإجراءات المزمع القيام بها: "ومن بعيد ارتفع صوت غريب يتخلل همهمة كبيرة..

- زي ما قلنا الجو جميل جدًا.. والفريقين نزلوا الملعب من دقائق.. والمباراة ستبدأ الآن..

وفي غضب ملحوظ صاح عبدالمقصود:

- اللي معاه ترانزستور يقف..

ووقف تلميذ من المدرسة الثانوية في عاصمة الإقليم، كان يجلس في ركن بعيد على أذنه ترانزستور:

- أصله يا حضرة الناظر.. أصلها مباراة الموسم بين الأهلي والزمالك.

وقال عبدالعظيم:

- اخرج اسمعها بره يا أخي وخلينا في شغلنا، واللي عايز يسمع المباراة يخرج معاه".

يعلو صوت المعلق الرياضي الإذاعي ليخدش الصمت ويفسد التركيز الذي يتسم به الاجتماع، ويبرهن من ناحية أخرى على اهتمام الإذاعة المصرية مثل الصحف بالمباريات، دون تفكير في الفلاحين الأولى بالاهتمام. التلميذ الشاب الذي يشارك في الاجتماع لا يستطيع أن يتخلى عن هوايته الأثيرة المسيطرة على تفكيره ومشاعره، ويجتهد للجمع بين حبه للكرة ومشاركته في العمل السياسي من خلال التنظيم الاشتراكي في القرية. مباراة الموسم بين قمتي الكرة المصرية، الأهلي والزمالك، تبدو جديرة بالمتابعة، وكلمات عبدالعظيم الحاسمة الحازمة تحول الشاب إلى متهم تطوله عقوبة الطرد من الاجتماع، لكنه ليس الوحيد الذي ينفرد بالوقوع في سحر الكرة والخضوع لجاذبيتها وشعبيتها: "وانسحب الطالب في خجل، وخرج وراءه اثنان.. ثم واحد.. وبقي الركن الذي كان يجلس فيه طلبة المدرسة الثانوية مكتظًا بنحو عشرين طالبًا، استداروا كلهم في انتباه كامل إلى حيث كان يجلس عبدالمقصود.

وارتفع من بينهم صوت غاضت نعومته الطفلة وسط خشونته الجديدة:

- احنا آسفين.. اللي خرجوا دول لا يمثلوا إلا أنفسهم. ودول مجانين كورة..

فرد عبدالمقصود:

- شكرًا.. على كل حال احنا كلنا مسئولين عن توعيتهم".

الأقلية من الشباب تعلن عن انحيازها الصريح للكرة وتؤثر الانسحاب من الاجتماع السياسي، والأغلبية تواصل المشاركة التي ترادف الجدية والالتزام بقضايا القرية، بل إن أحدهم يتطوع بالاعتذار وإدانة "مجانين" كرة القدم، وهي إدانة يوافق عليها عبدالمقصود عندما يؤكد على ضرورة توعيتهم، ما يعني أنهم محدودو الوعي.

على صعيد آخر، يبدي حلاق القرية استياءه من تكاسل التلاميذ عن أداء صلاة الجمعة، وإذ يحضهم على الإسراع للذهاب إلى المسجد بعد ارتفاع الآذان، يرد عليه واحد منهم:

"- يعني مستعجل قوي ليه كده يا أسطى..

- مستعجل؟.. يعني لو كان ولا مؤاخذة فيه ماتش كورة مش صلاة جمعة، مش كنت رمحت زي الرهوان يا سيدنا لفندي؟!".

الاستهانة بالاجتماعات السياسية، والوقوف على حافة اللامبالاة بالصلاة، وليس إلا كرة القدم من نموذج يستشهد به الحلاق ليعبر عن سخطه ورفضه للسلوك المنفلت، فهؤلاء الشباب أنفسهم يهرولون من أجل الكرة وحدها!.

عند الجادين اللامبالين بكرة القدم ومبارياتها، يتحول الشغف باللعبة ذات الشعبية الطاغية إلى علامة سلبية تغيب معها الثقة والمصداقية. عند التفكير في كتابة برقية احتجاج، تحمل شكوى للرئيس عبدالناصر من المظالم والانتهاكات التي تتعرض لها القرية، يتجدد الحديث عن التلميذ صاحب الترانزستور. هل يصلح لكتابة البرقية؟. ألا ينهض اهتمامه بالكرة دليلاً على غياب الجدية اللازمة؟!: "هاتوا لنا أحد تلاميذ المدرسة الثانوية ممن لا يبيتون في عاصمة الإقليم.. ابعدوا عن الطالب الذي كان يسمع مباراة الكرة أثناء الاجتماع.. لا والله إنه ابن حلال، وهو يكتب كلامًا طيبًا.. وحكاية الكرة هذه ما لها وللبرقية..".

الانقسام محتدم حول تقييم سلوك الطالب المولع بكرة القدم، فهناك من يستبعده من قائمة الترشيح لكتابة البرقية، كأنه متهم مدان، وهناك من يميل إلى الاعتدال ويراه: "ابن حلال" يتقن الكتابة، دون نظر إلى هوايته التي قد لا تخلو من تطرف، لكنها لا تمثل جريمة تقود إلى النفي والإقصاء!.

في مكتب البريد، على عتبات إرسال البرقية، يتجدد النقاش أيضًا حول إغفال الصحافة لهموم الفلاحين، وتعلو الأصوات الرافضة لإرسال الاحتجاج إلى من لا يبالون بقضايا القرية ولا يشعرون بها: "هيه الجرايد فاضية لنا.. دول مشغولين بالكرة والفساتين والصور العريانة والممثلين وأخبار بعض ومدح بعض وشتيمة بعض وشيلني وأنا أشيلك".

كرة القدم ليست الداء الوحيد، فهي جزء من منظومة السلبيات المتشابكة التي يدفع الفلاحون الفقراء ثمنها. شعورهم اليقيني الراسخ أنهم لا يحظون ببعض ما يستحقونه من انتباه الوسيلة الإعلامية المهمة، وتصل الإدانة إلى ذروتها في كلمات الفلاح الشاب سالم، الذي يقدم نقدًا لاذعًا للصحف وما تركز عليه من قضايا هامشية تافهة: "أنا حبعت جواب لكل الجرايد أقول لهم نظرة للفلاح.. جواب لكل جريدة أقول لها نظرة ياست.. اكتبي عن الاشتراكية والفلاح قد ما تكتبي عن الجرائم والمودة والكورة والممثلات والفنانات".

الأمر هنا لا يتعلق بعداء وكراهية كرة القدم، بل إنه يعني الرفض لغياب التوازن المنشود في المعالجة العادلة الملتزمة، ذلك أن المجتمع المصري يواجه عديدًا من المشكلات والأزمات التي تستحق المساحات المخصصة في صحف العاصمة لكرة لقدم والحوادث المثيرة وأخبار الفنانين.

الأصوات الثورية العالية الزاعقة لا تعبر عن حقيقة الأوضاع السائدة في القرية المصرية، فليس صحيحًا أو دقيقًا أن الأقلية من تلاميذ القرية هي التي تهتم بالكرة ومبارياتها، وينتمون في حماس إلى الأهلي والزمالك. بقاء الأغلبية في اجتماع وحدة الاتحاد الاشتراكي وليد شعور بالحرج، وعندما يبالغ الطالب عدلي في دور الثوري المثالي الذي يعيب على أقرانه بعض سلوكياتهم التي لا تروقه، ويوجههم إلى ما ينبغي عليهم القيام به، يشتعل الجدال وينفجر حوار مهم يوشك أن يتحول إلى شجار، ويكشف المشهد في جملته عن جانب مهم من إيقاع الحياة في القرية:

"- بلاش استعراضات وحركات كل ما تشوف تلميذة فايتة.. وخلينا في المهم..

- يا أخي خليك انت في الكورة.. ثم اسمع بقى يا عدلي.. ما تعملش زعيم عليّ قدام البنات.

- فاكر يوم ما سبتنا في المضيفة وقمت من أهم اجتماع بيقرر مصير البلد علشان تسمع مباراة الأهلي والزمالك!.

- انتم حاتذلوني بالكورة؟.. ما كل الدنيا مهتمة بالكورة.. ما كلنا كنا عاوزين نسمع المباراة دي بالذات.. أنا على الأقل كنت صريح وواضح مع نفسي وشجاع قدام الناس وقمت أسمع المباراة.. ما أنت أول ما قابلتني سألتني عن النتيجة يا أخي.. هو يعني عشان الأهلي بتاعك ما انغلب..

- اخرس.. زمالك مين اللي يغلب الأهلي.. دا الحكم.. الأهلي هو الكورة!.

وتدخل الطلبة الآخرون لإنهاء النقاش الذي أوشك أن يتطور إلى مشاجرة".

الاهتمام بكرة القدم ليس جريمة تستحق الإدانة كما يكشف الحوار الصاخب بين الشباب: "ما كل الدنيا مهتمة بالكورة"!، والأغلب الأعم من المشاركين في الاجتماع السياسي يسكنهم الفضول لمعرفة نتيجة المباراة التي يتوقون لمتابعتها، لكنهم يكتمون مشاعرهم الحقيقية لإضفاء نزعة الجدية والالتزام. حرصهم هذا ينهض دليلاً عمليًا على تعلقهم المفرط بكرة القدم، والتوتر العنيف عند الحديث عن فوز الزمالك وهزيمة الأهلي، بمثابة التأكيد على انتماء لا يقوى مدعو الجدية على كتمانه طويلاً.

تابع مواقعنا